استخدمت أنظمة وزعماء عرب على مدى عقود، نهج الابتزاز الإعلامي "Media Blackmail" بكل الإساءات والضجيج لفرض سياسات أو تحقيق مطالب خصوصًا من دول الخليج العربي، مستغلّين في ذلك طبيعة الثقافة السياسيّة السائدة آنذاك التي كانت تتّسم بالحساسيّة تجاه الضغوط الإعلاميّة. وكانت الحملات الإعلاميّة، سواءً عبر الصحف أو القنوات التقليديّة، تحقّق بعض النتائج، وفي أحيانٍ كانت تؤثر في صناّع القرار وتدفعهم لتقديم تنازلات أو استجابات لتجنّب تصعيد التوتّرات.
ومع ظهور الإنترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي طوّرت هذه الأنظمة أدواتها بتوظيف هذه الوسائل الجديدة بكثافة، محاولةً استهداف الرأي العام الخليجي وصناّع القرار عبر حملات إعلاميّة موجّهة، ومنصّات رقميّة تخصّصت في الشتائم والإساءة. ولكن من يعملون في المكائن الدعائيّة لهذه الأنظمة لم يدركوا بعد أن قواعد اللعبة تغيّرت بفشلهم في استيعاب مستحقّات التحوّلات الاقتصاديّة والثقافيّة والفكريّة الكبرى في دول الخليج.
دول الخليج وظّفت على مدى سنوات مواردها وفق استراتيجيّات وخطط لمصالح أوطانها ومواطنيها فبرز جيل جديد من الشباب المتعلمين في جامعات بلدانهم، وفي أرقى الجامعات العالميّة، وهم يمتلكون مهارات تقنيّة متقدّمة ووعيًا عميقًا بالتاريخ والواقع السياسي. وهذا الجيل بمهاراتهم العالية ووعيهم يبنون أوطانهم ويتطوّعون بالصوت والصورة لكشف كذب الشعارات وزَيف الروايات الدعائية. هذا الجيل الخليجي الجديد في حواراته يرفع مستوى وعي شعوب هذه الأنظمة، ويشكّل جدارًا متينًا ضد هذا الابتزاز الإعلامي، وبعضهم قد ينفعل ضمن مبدأ هذه "بضاعتكم رُدّت إليكم"، ما جعل هذه الحملات الإعلاميّة ليست فقط غير فعّالة، بل عبئًا داخليًّا على من يطلقونها.
والإشكاليّة الأساسيّة هنا تكمن في استمرار اعتماد بعض الأنظمة على نظريّة صمام الأمان "Safety Valve Theory" لتنفيس الضغوط الداخليّة وتجنّب الانفجار أو الانهيار بتحويل اتجاهات الغضب الشعبي نحو خصم وسبب خارجي بهدف تخفيف الضغط الداخلي. وهذا النهج لا يعالج الأسباب الحقيقيّة للفشل الداخلي، بل يزيد من تعقيدها. والحقيقة الأخرى أن هذا الصخب لم يعد يجد صدى في الخليج، حيث باتت القرارات السياسيّة أكثر صلابة وثباتًا، مستندة إلى رؤى استراتيجيّة واضحة وغير متأثرة بالضغوط الإعلاميّة، بل على العكس، فإن محاولات الابتزاز الإعلامي الخارجي هذه تعزز الحماس الوطنيّ وتماسك المواقف الخليجيّة.
ومما ينبغي أن يُثير القلق هو أن مثل هذا الشحن الداخلي ضد دول الخليج والذي تُغذيه هذه الأنظمة لدى شرائح المسحوقين من شعوبها سيرتدّ عليها عندما تنكشف أوضاعها أمام سيل الحقائق الجارف في ردود بعض شباب الخليج. فالشعوب التي تُغذى بالروايات المغلوطة سيرتدّ سخطها وغيظها نحو أنظمتها عندما تدرك أن المشكلات الداخليّة لا يمكن حلّها بتصدير الأزمات. وهذا الارتداد العكسي قد يؤدي إلى نتائج وخيمة على مستوى الاستقرار الداخلي أو العلاقات الإقليميّة لهذه الأنظمة، ولو عقلت هذه الأنظمة لعلمت أن الأجدى من استنزاف الطاقات في حملات إعلاميّة عقيمة، هو توجيه مواردها وإمكانات شبابها نحو مشروعات وطنيّة بناءة، في ظل حقيقة ما تملك في بلدانها من إمكانات هائلة للنهوض، شريطة تمكين العقلاء من إدارة معنويات الداخل بمواجهة الذات والتحديات وبناء القدرات.
نعم إنه الطريق الأسهل فبدلًا من افتعال كل هذه الضجّة التي لم تعد تجدي، ينبغي لهذه الأنظمة الشروع في الانتقال من ثقافة الكلام والتخدير، وتصدير المشكلات، إلى ثقافة العمل الجاد، والاستثمار في طاقات هذه الشعوب وتحويل التحديات إلى فرص للتنمية والاستقرار السياسي والاقتصادي.
-
مسارات
قال ومضى:
من يرقصُ على جراحه، فليتحمّل عواقب ضجيج طبوله.