: آخر تحديث

هل تشبيه الحاضر بالماضي مفيد للتحليل السياسي؟

1
1
1

عبدالرحمن الحبيب

المثل العربي الشهير الذي أطلقه الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد من سجنه متحسراً على خذلان قومه له، في شطر بيته الثاني: «كلهم أروغ من ثعلب... ما أشبه الليلة بالبارحة» يُقال لبيان تشابه الأحداث أو الأوضاع في الوقت الحالي مع ما حدث في الماضي، وكثيراً ما يُستخدم هذا التشبيه كأداة من أدوات التحليل للأحداث الكبرى المفاجئة خاصة مع تشابهها الظاهري مع أحداث سابقة؛ فهل تشبيه الحاضر بالماضي مفيد، وهل التشبيهات التاريخية أداة جيدة للتحليل؟

في أعقاب نهاية الحرب الباردة، ركّز العديد من المفكرين البارزين تفكيرهم على شكل العالم القادم بناءً على التشبيهات التاريخية مثل كتابات فرانسيس فوكوياما «نهاية التاريخ» (1989)، وصمويل هنتنغتون «صراع الحضارات» (1993).. وفي هذه الأيام يتم إطلاق العديد من التشبيهات على الرئيس الأمريكي نتيجة قراراته الصادمة للعالم؛ ففي روسيا وأوروبا الشرقية ينتشر اعتبار ترامب شخصية شبيهة بغورباتشوف ويُقارن ما يحدث بالولايات المتحدة بتجربة الاضطراب السوفيتي وانهياره، وحتى بالصين رغم عدم التشابه بين ترامب وماو تسي تونغ، «الذي أطلق الثورة الثقافية العنيفة في الصين» إلا أنه يتم من بعض المفكرين بالصين تشبيههما بوصفهما مدفوعين بالتمرد، حسبما كتب أورفيل شيل، الخبير بالشؤون الصينية.

نحن نلجأ للتشبيهات التاريخية عندما يستعصي علينا الفهم أو تفشل أدوات التحليل الأخرى في تفسير ما يحدث في الزمن الحاضر، أو عدم كفاية الوقت لتحليل اللحظة الراهنة، فيكون التشبيه من أكثر أساليب التفسير حضوراً، ويصبح التفكير من خلال القياس التاريخي الوسيلة المُفضّلة لمواجهة مخاوفنا.

سبق أن أجرى البروفيسور من جامعة كولومبيا روبرت جيرفيس، عالم السياسة البارز، دراسةً مستفيضةً لاستخدام التشبيهات التاريخية في صنع قرارات السياسة الخارجية، مُركزًا بشكل خاص على كيفية استخدام صانعي السياسات للأحداث الماضية لفهم الأوضاع الراهنة ومعالجتها، واستنتج بأن صانعي السياسات غالبًا ما «يستخدمون التاريخ بشكل خاطئ»، مستخلصين دروسًا غير صحيحة أو ناقصة من الماضي بسبب التحيزات المعرفية وقصور في معالجة المعلومات؛ مؤكداً أنه على الرغم من أن التشبيهات التاريخية قد تُفيد في صياغة القضايا وتقديم تفسيرات محتملة، إلا أنها قد تُؤدي أيضًا إلى تفسيرات مضللة وخيارات سياسية خاطئة.

خذ مثلاً إيلون ماسك الذي يعترف بأنه لا يكف عن التفكير في سقوط روما، مردداً: «سقطت روما لأن الرومان توقفوا عن توليد الرومان»، ويستمتع حين يرددها، قاصداً بذلك أن انخفاض معدل المواليد في روما بالقرن الأول قبل الميلاد هو أهم ما تحتاج لمعرفته حول الوضع العالمي الراهن، أي أن الديموغرافيا قدرٌ محتوم. ربما ذلك يعكس بدقة فرضية البروفيسور جيرفيس، بأن صانعي السياسات غالبًا ما يلجأون إلى استخدام متحيز للتشبيهات تتوافق مع معتقداتهم السابقة بدلًا من تقييمها بموضوعية، مما قد يؤدي إلى تصورات مشوهة وقرارات خاطئة، خاصة في أوقات الأزمات. ويمكن فهم هذه الظاهرة من منظور علم النفس المعرفي بما يطلق عليه بالتحيز المعرفي، حيث تتأثر معالجة العقل للمعلومات بالتحيزات المتأصلة المُسبقة.

في واقعنا الجيوسياسي الحالي، أصبح التفكير من خلال القياس التاريخي هو أسلوب شائع لمواجهة مخاوف الحاضر، إذ لا يكاد يمر يوم دون أن نعود إلى فترة ما بين الحربين العالميتين، أو إلى سبعينيات القرن العشرين المضطربة، أو حتى إلى التاريخ القديم، كما كتب الباحثان السياسيان إيفان كراستيف وليونارد بيناردو اللذان طرحا أسئلة: لماذا نقارن الحاضر بالماضي؟ هل تُفيد التشبيهات التاريخية حقًا في فهم اللحظة الراهنة؟ وهل نحن قادرون على إجراء تشبيهات صحيحة أصلًا؟

ويجيب هذا الباحثان بأن التشبيهات مغرية ليس فقط لأنها تُظهر أوجه التشابه، بل لأنها تساعدنا أيضًا على إبراز الاختلافات، فالروح الثورية لبرنامج ترامب تختلف بوضوح عن سياسة البيريسترويكا التي انتهجها الزعيم السوفيتي غورباتشوف، حتى مع استمرار النخبة الروسية في اعتبار ترامب شخصيةً شبيهةً بغورباتشوف ستصدم النظام المحلي الأمريكي وتُعجّل بانهياره؛ وبالمثل، تُميّز مقارنات ترامب بالثورة الثقافية الصينية منطقًا رديئًا.. ببساطة، ليست جميع التشبيهات متساوية.

إلا أن الباحثان يوضحا أنه رغم خطورة التشبيهات التاريخية وقد تكون عرضية، إلا أنها أدوات فكرية قيّمة لرسم خريطة الخيارات التي يواجهها صانعو السياسات؛ فهي بخلاف الأدوات التحليلية الأخرى، تساعدنا على فهم مشاعر صانعي السياسات تجاه أزمة ملموسة، وتقيس شدتها؛ مثل أن مقارنة الوضع الراهن بثلاثينيات أو سبعينيات القرن الماضي تُظهر درجةً معينة من القلق والهلع.

ورغم أن القياسات المشبوهة كانت مسؤولةً عن عددٍ لا يُحصى من القرارات الخاطئة، إلا أنها أساسيةٌ للتغلب على أزمة التوجه، حسبما يوضح الباحثان لأن القياسات التاريخية تُوفر إطارًا معرفيًا لتنظيم المعلومات وفهم العالم، وتُساعد صانعي السياسات على ربط الحاضر بالماضي، بطريقة تُبسِّط المواقف المعقدة وتجعلها أكثر قابليةً للفهم، كما تُتيح القياسات التاريخية لصانعي السياسات رؤية ما هو غير مألوف على أنه مألوف.

إنما التحدي الراهن في هذا السياق - كما يرى الباحثان - لا يكمن في الوصول إلى التشبيهات الصحيحة والقياسات السليمة، بل يكمن في فهم كيفية تأثير القياسات المتناقضة على عملية صنع القرار، ويكمن في وضع القياسات «على الطاولة» ومن خلالها نفهم إمكاناتنا السياسية المستقبلية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد