لا شك أن تسارع الأحداث الأخيرة وبالرغم من قسوتها الشديدة على شعبنا من جراء حرب الإبادة التي شنتها الحكومة المجرمة في اسرائيل وأيضًا على المنطقة برمتها، قد أعادت الأمور إلى نقطة البداية التي بحثنا عنها كثيرًا لأعوام طويلة، ألا وهي إعادة انخراط الولايات المتحدة الأميركية بجدية لم تكن موجودة خلال عقود مضت، في محاولة لإيجاد حل لصراعنا الأبدي مع الاحتلال الإسرائيلي من أجل تجسيد دولتنا، وحصول شعبنا على حقوقه المشروعة، بصفتها القوة الوحيدة القادرة على تغيير المعادلة، في ظل موازين القوى الدولية.
فمنذ ما يزيد على ثلاثين عامًا، وضعت قيادتنا المتنورة والمؤمنة بأنها على الطريق السليم رؤية جديدة لكيفية إدارة الصراع والوصول بأسرع وقت لتحقيقها، حيث تجسدت تلك الرؤية في نقطة مفصلية، وهي تغيير المسار والذي سمي في حينه "بهجوم السلام الفلسطيني"، لترسي لغة الحوار والدبلوماسية، بعد أن كان الكفاح المسلح هو اللغة الوحيدة للتعامل مع الاحتلال.
وقد بدأ هذا التحول بإعلان الدولة في عام 1988 من قبل زعيمنا الخالد ياسر عرفات، وبدأ الشق التنفيذي له خلال أقل من خمسة أعوام، بتوقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض في عام 1993، ذلك الاتفاق المرحلي الذي كان سينجز الاستقلال خلال خمس سنوات.
ولكن أبت بعض القوى الفلسطينية مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي غيرها أن تساهم في جعل هذا المسار يأتي بثماره كما خُطط له، فتآمرت عليه، وشاركها في ذلك اليمين الإسرائيلي وقوى إقليمية ودولية مختلفة، وقد تناولت ذلك بشكل مفصل في مقالات سابقة. أضف لذلك الأخطاء العديدة التي وقعنا فيها في مراحل مختلفة من تلك الفترة.
وقد استحضرتني مقولة "إن الأزمات تصنع الفرص وهي نفسها اللحظات التي نصنع منها التغيير"، وأنه يجب علينا ومع مرور الوقت أن ننسى وإلا سنعيش في سجن الذكريات. وقد دعاني ذلك للإدراك مرة أخرى أننا في لحظة فارقة من تاريخنا لا تشبه ما مررنا به سابقًا خلال عقود. فنحن الآن وبشكل خاص نمر بأزمات مركبة: نعيش في أزمة نظام سياسي منقسم تحاول جهات كثيرة تفتيته للإجهاز عليه، وأزمة اقتصادية خانقة تكاد تعصف بكل المشروع الوطني، وأزمة دولية ناتجة عن إعادة تموضع القوى الكبرى والذي يأتي في العادة على حساب الدول والشعوب التي لا تُحسن التصرف في تلك المواقف دون رحمة.
وإدراكًا منا لذلك كان لزامًا علينا انتهاز الفرصة السانحة التي تأتت من رحم المعاناة الكبيرة التي يعيشها شعبنا في كل أماكن تواجده، للمضي قدمًا في محاولة الخروج من هذا الوضع الكارثي، والمتمثلة في عدة أمور هامة، أولها ضرورة وقف حرب الإبادة في قطاع غزة والتخفيف ولو قليلًا عن شعبنا وبأي ثمن، وثانيها البناء على الزخم الدولي الذي أحدثته تلك الحرب في محاولة لإعادة إحياء المسار الذي كان قد بدأ قبل عقود. وأكاد لا أصدق أننا فعلنا ذلك بعد تلك المؤامرة الكبيرة متعددة الأطراف والتي أخرتنا أكثر من ثلاثين عامًا. فالمسار الجديد يعمل بالشكل المطلوب حتى الآن، والذي اعتمد على الرؤية السعودية الثاقبة التي وضعها سمو ولي عهد المملكة، والتي تعتمد في جوهرها على ضرورة حل القضية الفلسطينية كمقدمة أساسية لا غنى عنها لسلام إقليمي طال انتظاره. وقد تحولت تلك الرؤية بعد جهود مضنية وشاقة إلى رؤية عربية وإسلامية، وأصبحت دولية بعد الجهد الفرنسي المقدر الذي واكب وتفاعل مع الجهد السعودي والعربي، وأدى ذلك للتحول المطلوب لاغتنام الفرص السانحة لتصبح مبادرة أميركية جادة، ذات خطوات واضحة، قد تحقق حلم الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
المرحلة الأولى من هذه الخطة في طريقها للانتهاء، فلم يتبق سوى ثلاثة جثث لرهائن نأمل أن يتم تسليمهم في أقرب وقت، والعمل جارٍ على قدم وساق من أجل البدء في المرحلة الثانية، حيث يجري نقاش حول مسودة قرار استعدادًا لاعتماده في مجلس الأمن الدولي يضم بنود هذه الخطة بهدف إضفاء الشرعية الدولية عليها وبقيادة أميركية، والتي أرى أن بها بنودًا هامة جدًا تتعلق بتشكيل قوة استقرار دولية ستعمل على الفصل بيننا وبين اسرائيل وستشكل في الوقت نفسه درع حماية على الأقل بحده الأدنى بما يضمن عدم عودة الحرب من جهة، والتأكيد على مسار السلام وحل الدولتين بما يضمن دولة فلسطينية مستقلة من جهة ثانية.
لقد عدنا من جديد وأخذنا زمام المبادرة وأعتقد أننا هذه المرة عاقدون العزم أن نذهب إلى النهاية وكلنا إيمان بأننا سننجح.
"الحياة لا تتوقف إلا بالموت واليأس، والموت إجبار واليأس اختيار".


