كان لي صديق جميل في فكره ومنطقه، مثقف وملتزم دينيًا، لكنه يحمل من المرونة والاستنارة العقلية الشيء الكثير. كنت أقضي معه الساعات الطوال في حوارات لذيذة، ولا أملّ الحديث معه.
تساءلت أمامه ذات مرة عن العدل والمنطق الإلهي أو الرباني في إدارة العالم والحياة... كنت أقول له مثلًا: أليس العدل أن يحدث كذا وكذا؟ أليس من المفترض أن يحصل كذا وكذا؟ أليس المنطق السليم يستلزم بالضرورة كذا وكذا وكذا... إلخ.
تركني صاحبي أسترسل وأطرح الكثير من التساؤلات والتعجبات والاستفهامات والاستغرابات التي لا تنتهي، وهو يبتسم بهدوء وينصت جيدًا في تلك الجلسة الرائعة.
وحين انتهيت، قال بكل هدوء وبساطة: يا صديقي، لله حسابات أخرى.
وقع قوله عليّ وقعًا قويًا ومؤثرًا، وقرع في داخلي أجراسًا مدوّية، وتحوّلت بوصلة الحوار إلى تلك الحسابات الأخرى، وماذا يقصد بها؟ طال الحوار قليلًا ثم انتهى.
ولكن صدى تلك المقولة في أعماقي لم ينتهِ، بل زاد وتوسّع وتمدّد، وانشغلت بذلك زمنًا، حتى وقعتُ على مقولة أخرى –وأنا أستمع إلى أحد المقاطع الفلسفية– وهي مقولة تمثل وجهة نظر أحد المفكرين الأجانب، وأظنّه أمريكيًا مسيحيًا إن لم تخنّي الذاكرة. نصّ المقولة لا أذكره جيدًا، ولكنه قريب من صياغتي هذه: "الله يدير الكون بطريقة غامضة."
تأملت كل ذلك وما شابهه سنوات طويلة، حتى وصلت إلى قناعة اطمأنت إليها نفسي في هذه المسألة. ومهما اجتهدت في التعبير عن تلك القناعة، فلن أستطيع اختزالها أو اختصارها في بضع كلمات أو مقال، ولعلّ الصورة تتضح أكثر من خلال ربط المقولتين السابقتين الواردتين في هذه المقالة، بمقولة الفيلسوف والمفكر الإسلامي الشيعي مرتضى مطهري، في كتابه العظيم العدل الإلهي، الذي تأثرت به كثيرًا واستفدت منه أيضًا في مسائل كثيرة، إلى درجة جعلتني أكرّر قراءة ذلك الكتاب الجميل عدة مرات في حياتي.
حيث أكّد مطهري في الفصل الثاني من ذلك الكتاب، على ما معناه أن الإنسان إذا آمن بوجود خالق مبدع مدبّر، فلا يجوز أن يتصوَّر في حقّه الظلم والعدوان، فلا بدّ من تفسير الظواهر المتخيَّل مخالفتها للحكمة والمنطق، بأنها تنطوي على لون من المصلحة المجهولة التي لا يفهمها الإنسان.
إنَّنا مهما أحببنا الفلسفة والتفكّر، فلا ينبغي –في نظري الحالي، وهي قناعة توصلت إليها مؤخرًا وقد لا تستمر– أن نجزم بقدرة عقولنا على فهم كل شيء بدقة كاملة عن طريق التأمل والتفكير العقليين المجرّدين، خصوصًا في المسائل الميتافيزيقية والماورائية. فالتفكير العقلي البحت قد يكون أحيانًا عاجزًا –كما يرى محمد إقبال– عن إدراك كنه الحقيقة القصوى. ويشبّه إقبال الإيمان بالطائر الذي يعرف طريقه الخالي من المعالم، غير مسترشد بالعقل؛ فالإيمان –عنده– كالطير يعرف طريقه، حتى وإن كان طريقًا لم يسلكه كائن قبله.
وأضيف: الإيمان قد يكون كالطير أيضًا من ناحية أخرى، وهي أنه يدخل قلوبًا ولا يدخل أخرى.

