: آخر تحديث

عالم يأكل نفسه

2
1
1

لم يزل صدى قرع أجراس الخوف على الطبيعة والإنسان ومستقبله البشري يتردد منذ تفاقم سياسة العولمة التي هيمنت على القرن الأخير من عمر البشرية، وربما يكون أصدق تعبير ما قاله "داريل أديسون بوسان" الخبير الاختصاصي ببرامج الأمم المتحدة للبيئة: "أنّ العالم متجه ليأكل نفسه في ظل العولمة التي تهدد حماية الثقافات المحلية التي تعني إغناءً حيوياً للعالم ومسيرته" باتت المخاوف مشروعة من تهديد البيئة الكونية للعالم التي تمتلك قوتها بتنوع هويات شعوبها لا بتوحدها وتماسخها.

لقد حذر غالبية علماء الاجتماع والتربية من خطورة إلغاء تمايز هوية المجتمعات وتنوعها، فهو الذي يحقق التراكم والغنى اللازم للارتقاء والتقدم في حياة المجتمعات وتطورها. لقد كشفت البحوث المختصة بدراسة آثار العولمة أن هذه السياسة سوف تطيح بأسرار الطبيعة التي تمنح العالم المزيد من الحيوية والخصوبة، لأن آلية العولمة ومنهجها يعملان - على سبيل المثال - على إزالة الخصوصيات وفرض عموميات تعمل على تجميد حركة العالم في قوالب ثابتة آيلة إلى الخمول والسكون وفق منطق الحياة وحتمية التاريخ البشري.

تنبأ الخبراء في أبحاثهم أن العولمة سوف تزيل نصف اللغات المحلية في العالم، وكل ما يرتبط بها من التجارب والصناعات الحرفية والفنون الفولكلورية التي تسهم في إغناء حركة الوجود وتخصب نتاجه، فهي التي أعطت العالم حيوية استمراره وتنوعه وقدرته على التجدد والإبداع، وهي التي أسهمت في تنويع الحضارات وتجنب العالم النموذج المفرد المستبد. وأكد تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة في دراسة له حتمية اختفاء وزوال ما يقرب من (234) لغة أصلية معاصرة، وأن (90) بالمئة من لغات العالم آيلة إلى المصير نفسه خلال القرن الحادي والعشرين، فهناك (2500) لغة مهددة بالزوال خلال فترة وجيزة جداً.

قدم هؤلاء الخبراء تقريراً من تحرير "داريل أديسون بوسان" يثبت أن لغات العالم على مستوى اتساعه واتساع تقنياته الحديثة مقبلة على انحسار خطير، يجعله عقيماً خاملاً ناضب الروافد التي تسهم في تنوع ينابيعه، وينبه هذا التقرير بقوة إلى مخاطر العولمة في آلية تعاملها مع خصوصيات الإنسان وتبديد مقدراته وتحويلها إلى أفق واحد ثابت يفقد طاقته الذاتية.

تفرض العولمة اختفاء اللغات المحلية وزوالها لأنها تعدها حاجات فوقية أو هامشية، ويكشف التقرير الذي درسها ميدانياً وفق نظريات علمية حديثة على أنها جزء مهم وحيوي من مكونات البيئة التي تشكل بتنوعها طاقة التجديد والارتقاء والتقدم في الكون. ويؤكد المعهد الأكاديمي المختص بالبيئة في دراسته دور البيئة المحلية في بناء العالم وتطوره على البعد الحقيقي لهذه الظاهرة بصفتها تعبيراً عن خزين العالم وطاقاته الذاتية المحركة.

لقد دفعت العولمة العالم إلى أن يأكل نفسه، وإذا كانت هذه العولمة تمنّي العالم بمزايا وحسنات ظاهرة وبينّة، إلا أنها تنطوي على مزالق ومخاطر أشد إفساداً لسيرورة الحياة والعالم والمجتمعات. فالعولمة أشبه بحالة اكتشاف الذرة وأهميتها في تكوين طاقات وفعاليات جديدة، لكنها بمقدار ما حملت من محاسن في الطاقة والطب تحمل أضراراً أشرس وأقوى تخريباً حين استغلت في مجال الحرب.

كذلك هي العولمة حيث دعت في جوهرها إلى تحرير السوق في العالم أجمع، وكما يرى "كلاوس تويبفر" قد يكون ذلك "مفتاح التنمية الاقتصادية في العالم، لكنه يتم على حساب آلاف الثقافات المحلية والتقليدية التي تعني امتلاك الشعوب معرفة حيوية الطبيعة والبيئة المحيطة، وهي تحافظ دينياً في ثقافتها وتقاليدها على الأسرار المتعلقة بالمسكن والأرض في بيئة حميمة، وبآلية مستمرة تكفل تطور العالم وتحديه للمشكلات الطارئة".

والمدهش في نظرية العولمة وتدعيمها هو أنها تنقض متنها الفكري والتطبيقي وتناقض طروحاتها في آلية استبدادية مرعبة؛ فعلى سبيل المثال تطرح العولمة وحدانية العالم وفق قضاء واحد ثقافي تكنولوجي، وتنتج التنظيرات المتلاحقة لسياستها. وفي الوقت عينه يؤكد القائمون أن هذه التنظيرات هي مجرد نظريات وتطبيقات مخالفة ومتناقضة، إذ تخالف العولمة في تطبيقاتها الفلسفة التربوية التي تنتجها حيث تؤكد الأخيرة ضرورة التفرّد والذاتية وخصوصيتها كما تحتّم ضرورة تنوع البيئة ودورها في التفرّد التعليمي، إضافة إلى تأكيدها مفهوم تحرير العقل وفرادة صلاته الحيوية مع البيئة. وبمقدار ما تدعي العولمة حتمية مفهوم الحوار في بناء العالم فإنها تعزز مفهوم الوحدانية وإلغاء الآخر وتحتال بادعاء الحوار للهيمنة التي تقوم عليها سياستها.

إن القراءة المتأنية لهذه السياسة تؤكد أنها حالة لا أخلاقية من استنساخ المجتمعات وناسها وبيئاتها وفق مفهوم الهيمنة والاستبداد، وتلك هي الحقيقة المأساوية للبعد التراجيدي في العولمة.

لذلك يدعو بعض علماء الاجتماع والإنسانيات إلى وجوب وعي تضليل خواطر العولمة البراقة التي تخفي ما تنطوي عليه من مخاطر ومحاذير لزج العالم في بوتقة سوف تحوّله بحسب منطق الوجود والتاريخ إلى مجمدة حتى تسهل الهيمنة عليه وتيسر قيادته نحو ما يخدم مصالح قوة سياسية مهيمنة، وهذا ما يضاعف لا أخلاقيتها وانحرافها الحقيقي نحو سياسة استنباء واستعمار عصري جديد.

بتعبير آخر؛ إن تدمير البيئات وإذابة الهويات حالة انتهاك للإنسان وحالة استنساخه إلى كائنات آلية مسيّرة خادمة لمصالح فئة عليا هي المتحكمة المتسلطة، تقوم في خفاياها على وجه آخر للانتداب والوصاية الحضارية على الشعوب وتضليل وجودها وإلغاء دورها في خياراتها، وثمة سؤال حول إمكانية الثقافات المحلية على مجابهة هذا الغزو الجديد المضلل وقدرتها على توعية شعوبها من إغراء تابوت الذهب. لا شك في أن الأمم التي تنتمي إلى حضارات عريقة تقوى على ذلك وتعرف كيف توظف إرثها وطموحاتها القومية في بناء منهج تربوي متطور قادر على مواجهة طغيان تربية العولمة التي تسللت إلى فكرنا وتربيتنا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.