قيل الكثير عن رئيس الوزراء العراقي الأشهر نوري السعيد، لكنها المرة الأولى التي أعرف فيها أنه تدخّل للتفريق بين قلبين. هذا ما ترويه السيدة ندى الدفتري في سيرة صدرت حديثاً عن دار «كلمات» بعنوان «أيامي في بغداد الأمس».
المؤلفة هي ابنة علي ممتاز الدفتري، السياسي العراقي ووزير الداخلية والمالية في النصف الأول من القرن الماضي. وهي من جهة والدتها حفيدة النائب ورئيس الوزراء في العهد الملكي، ياسين الهاشمي. تنقلت في حياتها ما بين حي الوزيرية في بغداد، وبين دراستها في معاهد خاصة لبنات النخبة في الإسكندرية ولوزان ولندن. سيرتها تسجيل أمين لجانب شديد الخصوصية من الحياة الاجتماعية البغدادية، يبدأ منذ ولادتها، عام 1938، وينقطع في 1958، تاريخ مصرع العائلة المالكة في العراق.
كتاب معزَّز بالصور، نتعرف فيه على طبقة أرستقراطية عراقية، بالمعنى الغربي للكلمة. ألقاب تفخيم وقصور وخدم وحشم ومُربيات ومآدب وحفلات شاي. إجازات في القاهرة وبيروت وإسطنبول. أساتذة خصوصيون لتعليم البنات اللغات الأجنبية والموسيقى. تقاليد متبَعة في الملبس والمأكل والتعاملات ما بين سمو فلان وفلان باشا.
والمؤلفة التي استقرت في مدينة الخُبَر، شرق السعودية، تتمتع بذاكرة من حديد وخزف. نقرأ: «لا أكتب لمحاسبة أحد، وليست غايتي تصحيح شيء. لكن الحقيقة التي عشتها لها من القوة والنصاعة ما يستفزّني لتسجيل خواطري وذكرياتي».
ترسم ندى الدفتري خريطة للعلاقات التي جمعت أفراد النخبة الحاكمة. لم تكن التوترات بين الرجال تؤثر على الصداقات بين زوجاتهم. «كانت والدتي مقرَّبة من الخالة أم صباح، زوجة نوري السعيد، ومعروف أن جدّي ووالدي كانا مختلفين معه سياسياً. لكن الخلاف لم يمسّ الصداقة النسائية».
والدتها، نعمت ياسين الهاشمي، درست في لندن واشتهرت بأناقتها. صمم الخياط اللبناني سماحة ثلاثة فساتين من الطراز نفسه، الأول للسيدة زلفى زوجة الرئيس كميل شمعون، والثاني للملكة زين والدة الحسين ملك الأردن، والثالث لوالدتها. وبتلك الصفات فإن ابنة ياسين الهاشمي كانت مرشحة للاقتران بغازي، نجل الملك فيصل الأول.
كان بيت الهاشمي مجاوراً لبيت الملك، على نهر دجلة. يأخذ الخادم الطفلة نعمت لكي تلعب مع الطفل غازي، على سطح الدار. ولمّا شبّت قليلاً فإنها كانت المختارة من بين شقيقاتها لحضور حفلات القصر. أرسلها والدها للدراسة في بيروت، وهناك بدأت رسائل من لندن، يبعثها لها الأمير غازي الذي يدرس هناك. مكاتيب بريئة من مراهق لم يبلغ سن الرشد إلى طفلة في الثالثة عشرة. تكتب المؤلفة: «أنهت والدتي الدراسة الثانوية وعادت من لبنان، وكانت مكاتيب المودّة مستمرة، وما لبثت أن تغيرت لغة الرسائل وأصبح فيها شيء من الاستلطاف ودعوة للزواج».
تفشّى الخبر في أرجاء العراق. وكان نوري باشا السعيد ضد هذا الزواج بقوة ومعه الإنجليز. كان يردد: «والله زين... باكر الملك ينادي ياسين باشا، عمّي». تم تدبير اجتماع طارئ للوزراء، بحضور عبد الله ملك الأردن الذي طلب من غازي أن يعقد قرانه فوراً على ابنة عمه الأميرة عالية. ولما تزوجت نعمت من علي ممتاز الدفتري أهداهما قطعة أرض في الوزيرية لتكون، فيما بعد، البيت الذي وُلدت فيه صاحبة السيرة. ثم يشاء القدر أن يموت الملك الشاب في حادث سيارة وهو في السابعة والعشرين.

