: آخر تحديث

الثقافات الجديدة.. ملامح التمدن القادم

1
1
1

تغريد إبراهيم الطاسان

لم يعد التمدن في مجتمعنا مجرّد مظاهر عمرانية أو أبراجٍ زجاجية تلمع في الأفق، بل أصبح نمط حياةٍ جديدا، يتشكّل بهدوء في تفاصيلنا اليومية: في طريقة التنقّل، وأساليب الترفيه، وإدارة الوقت، وحتى في علاقتنا بالمكان والآخر. لقد دخلنا مرحلة ثقافية جديدة، لا تُقاس فقط بما نملك، بل بما نتقنه من سلوك وتنظيم واحترام للنظام العام.

منذ سنوات قليلة فقط، كانت فكرة استقلال «المترو» أو دفع رسوم لموقف سيارة، أو حجز موعد قبل الذهاب لمطعم، تبدو غريبة أو مبالغًا فيها. اليوم، صارت هذه الممارسات جزءًا طبيعيًا من مشهدنا الحضري الجديد. إنها ليست مجرد إجراءات، بل تحوّل ثقافي عميق في طريقة التفكير والعيش، يعكس كيف تتجه المملكة بخطى واثقة نحو مجتمعٍ أكثر انضباطًا ووعيًا بالزمن والمسؤولية.

المترو، على سبيل المثال، لم يعد وسيلة نقلٍ فحسب، بل درسٌ في التنظيم. فدقّة مواعيده، واحترام الركّاب للوقت والمسار، يعكسان نمطًا حضاريًا يؤمن بأن الوقت قيمة لا تُهدر. ومواقف السيارات برسومها الذكية ليست عبئًا ماليًا كما يظن بعضهم، وإنما تربية جديدة على احترام المساحة العامة، وتنظيم حركة المدينة التي لم تعد تحتمل العشوائية. حتى ثقافة حجز الموعد قبل الذهاب لمطعم أو فعالية أو معرض لم تعد ترفًا، بل ممارسة حضارية تُعيد تعريف معنى «الاحترام المتبادل» بين مقدم الخدمة ومتلقيها.

هذه التحوّلات اليومية الصغيرة هي في الحقيقة الثقافة الكبرى التي تصنع التحضّر. فالمجتمع لا يتقدّم بخطب أو شعارات، بل بخطواتٍ دقيقة تُعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والمدينة. نحن أمام مشهد جديد، حيث التنظيم يغلب الارتجال، والالتزام يتقدّم على المجاملة، والتجربة تُفضَّل على الفوضى. إنها ثقافة المدن الحديثة التي بدأت تتغلغل في الوعي العام، فصارت الرياض وجدة والدمام وغيرها تُشبه المدن العالمية في إيقاعها ونظامها وروحها.

إنّ ما يحدث ليس مجرد تحديثٍ للخدمات، بل إعادة صياغة للذوق العام، فحين يقف الناس في طوابير منظمة، أو يحجزون عبر تطبيقات، أو يدفعون إلكترونيًا بدلًا من الجدل، فهم يمارسون شكلًا من أشكال التمدن الهادئ الذي لا يحتاج إلى ضجيج. هذه الممارسات اليومية تصنع في النهاية إنسانًا أكثر احترامًا للوقت، وأكثر إدراكًا لقيمة النظام، وأكثر وعيًا بأن الراحة الحقيقية تولد من الانضباط لا من الفوضى.

ولعلّ اللافت أن هذا التحوّل لا يأتي قسرًا من جهة واحدة، بل من تفاعل المجتمع كله مع مشروعات التحول الوطني الكبرى. فمشاريع مثل «القدية» «ونيوم” و»الرياض الخضراء» لا تبني مباني فقط، بل تزرع أنماطًا جديدة من السلوك، تجعل من الحياة الحضرية تجربة جمالية منضبطة، يتقاطع فيها الجمال مع النظام، والمتعة مع الاحترام. ومع كل خطوة تقنية أو تنظيمية جديدة، يتعلم المجتمع درسًا في الحضارة لا يقل أهمية عن أي درس أكاديمي.

التمدن الحقيقي لا يقاس بما نراه من عمران، وإنما بما نمارسه من قيم حضارية. نحن نعيش اليوم لحظة نادرة، حيث تتكوّن ثقافة جديدة في الوعي الجمعي السعودي، ثقافة توازن بين الأصالة والمعاصرة، بين الانفتاح والنظام، بين الفردية والالتزام العام. قد تبدو بعض التحولات في البداية غريبة أو مربكة، لكنها في الحقيقة تدريبٌ يومي على أسلوب حياةٍ جديدٍ يليق بوطنٍ يخطو نحو المستقبل بثقة وجمال.

لقد بدأنا نرى المجتمع السعودي يتقن فن العيش الحضاري: يخطط، ويحجز، وينتظر، ويحترم النظام. وهذا وحده كافٍ ليقول للعالم إن التمدن لم يعد حلمًا نستورده، بل ممارسة نعيشها كل يوم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد