: آخر تحديث

‏التكنو ــ فاشية الجديدة... الخوارزميات والسلطوية

2
1
2

في السنوات الأخيرة، لم تعد التكنولوجيا مجرّد أداة لتسهيل الحياة أو تعزيز الإنتاجية، بل تحوّلت إلى مشروعٍ آيديولوجي يهدّد البنية الأخلاقية والسياسية للعالم المعاصر.

‏تحت شعارات مثل «الذكاء الاصطناعي»، و«التقدّم التقني»، يبرز اليوم تيارٌ جديد من النخبة الرقمية في «سيليكون فالي» - من أمثال بيتر ثيل، وسام ألتمان - يسعى إلى إعادة صياغة العالم وفق منطق السيطرة التقنية المطلقة، فيما يمكن تسميتها التِكنو - فاشية: تحالفٌ بين الرأسمال الرقمي والنزعة السلطوية ضد روح الديمقراطية ومبادئ المواطَنة الحرة وسيادة الشعب.

‏كان الحلم التكنولوجي في بداياته وعداً بالتحرر من البيروقراطية، ومن سلطة المؤسسات القديمة. لكن مع مرور الوقت، تحوّلت وعود «الإنترنت الحر» إلى منظومات مراقبة عابرة للقارات، وأصبحت بمثابة «أخٍ عظيم» بالمعنى الأوريلي، يلاحق تفاصيل البشر وخطواتهم ورغباتهم. تحت ستار الشفافية والانفتاح، بنى عمالقة التكنولوجيا إمبراطوريات تستمد قوتها من البيانات الشخصية للبشر، ومن تحويل المستخدمين إلى «مواد خام رقمية» تُباع وتُشترى في الأسواق الافتراضية. بهذا، لم تعد التقنية وسيلة، بل أصبحت سلطةً جديدة تنافِس الدولة في قدرتها على التوجيه والسيطرة وصنع الرأي العام، أصبحت عالماً موازياً متفلّتاً من الرقابة والقواعد الضامنة لحماية الأفراد وحياتهم الخاصة.

‏اللافت هو أن هذه النزعة التقنية الجديدة لم تعد تكتفي بتطوير الأدوات، بل بدأت تصوغ فلسفة كاملة للوجود الإنساني. فبيتر ثيل، المموّل المقرّب من اليمين الأميركي، لا يخفي عداءه للديمقراطية، إذ يعدّها «عائقاً أمام الابتكار». وسام ألتمان، رئيس «أوبن آي» ومطوّر «تشات جي بي تي»، يتحدث عن «إدارة عالمية للذكاء الاصطناعي» تقرّر مصير البشر باسم الكفاءة والأمن؛ إدارة لا تشتغل بآليات الحوار والتشاور وصنع التوافق، بل بمنطق سلطة التكنولوجيا وقدرتها على تحقيق «المستحيل» دون تدخل بشري يُذكر.

‏هذه التصوّرات تنقل فكرة الحكم من يد المواطن إلى يد الخوارزمية، ومن فضاء النقاش العام إلى مراكز الحوسبة الفائقة. إنّه بعثٌ جديد لفكرة الصفوة المنقذة التي «تعرف أكثر» مما يعرفه الإنسان العادي؛ صفوة تحكم من وراء الشاشات. إنّها إفلاطونية رقمية بنفَسٍ سلطويّ، وسلطة رمادية تختفي خلف ضخامة البيانات وقوة الخوارزميات.

‏وفي ظل هذا المنطق، يُعاد تشكيل الفرد ذاته. لم يعد الإنسان مواطناً في فضاء سياسي، بل «ملفاً رقمياً» تُقاس قيمته بمؤشرات الإنتاج والاستهلاك. رقمنة الفرد تتعدى ما وصفه ماركوز بـ«الإنسان الأحاديّ» لتجعله مجرّد معادلة رقمية يمكن تشكيلها وفق رغبات مَن يصنعون القرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

‏لم يعد الذكاء الاصطناعي يساعدنا فقط على اتخاذ القرار، بل صار هو مَن يحدّد ما هو ممكن، وما هو مسموح به، وما هو مفيد. إنّها سلطة غير مرئية، لكنها أكثر اختراقاً من أي نظام سلطوي سابق: فهي تعرف رغباتنا قبل أن نعبّر عنها، وتوجّه سلوكنا بينما نظنّ أننا نختار بحرية.

‏ما يجمع بين التِكنو - فاشيين ليس فقط احتقارهم للمؤسسات الديمقراطية، بل أيضاً نزعتهم الميتافيزيقية التي ترى في التقنية خلاصاً للبشر، وفي الذكاء الاصطناعي طريقاً لتجاوز الإنسان لنفسه. إنّها صيغة جديدة من الترانس -إنسانية التي تعِد بإنسان «مُحسّن» يتفوق على الضعف والعاطفة والحدود الطبيعية، لكنها في النهاية تُفضي إلى طمس جوهر الإنسان: أي حريته وقدرته على الخطأ والإبداع.

‏بهذا المعنى، تتحول التكنولوجيا من أداة للتمدّن إلى لاهوتٍ جديدٍ بلا روح، يقدّس الكفاءة ويقصي القيم، ويقوّض حتى مفهوم الإنسان بوصفه ذاتاً تفكر وتختار وتتحمّل مسؤولية قراراتها ورغباتها وأفعالها.

‏ليست المشكلة في التكنولوجيا ذاتها، بل في الهيمنة الفكرية التي ترافقها. بينما يدّعي روّاد «سيليكون فالي» أنهم «يبنون المستقبل»، فهم في الواقع يستعيدون أحلام الطغاة القدماء في صيغة رقمية ناعمة. إنها الاستبداد في شكل ناعم ورقمي لا يقمع الأفراد داخل السجون ومراكز الاعتقال، ولكنه يقيّد تفكيرهم ورغباتهم عبر إغراقهم في عالمٍ افتراضيّ لا نهائي، يجعلهم مجرّد وحدات رقمية «مفيدة» أو «غير مفيدة».

‏هنا تبرز الحاجة إلى رؤية إنسانية توازن بين الابتكار والأخلاق، بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني. فالعالم العربي والإسلامي، الذي عاش قروناً من الحوار بين العقل والإيمان، بين العلم والضمير، قادرٌ اليوم على تقديم نموذج ثالث: تكنولوجيا تخدم الإنسان، ولا تبتلعه. الحداثة ليست في تسليم القرار إلى الآلة، بل في امتلاك الشجاعة الأخلاقية لتُسائلَها. ‏إن ما يلوح في الأفق ليس ثورة تكنولوجية فحسب، بل انقلاب حضاري على مفهوم الإنسان ذاته. وحين تُختزل الحرية في كودٍ برمجي، ويُختزل الوعي في خوارزمية، تصبح الديمقراطية مجرّد «خطأ تقني» ينبغي إصلاحه. عندئذٍ، لن يكون الخطر من الآلات التي تفكر، بل من البشر الذين كفّوا عن التفكير.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد