محمد سليمان العنقري
منذ سنوات كانت تقارير الوكالة تركز على ضرورة التحول عن الوقود الاحفوري بحجة تحقيق الحياد الكربوني عبر التشجيع على الاستثمار بالطاقة المتجددة والنظيفة والابتعاد عن الاستثمار في الطاقة التقليدية المتمثلة بالنفط والغاز بينما كانت وجهة نظر دول اوبك ان هذه التقارير والقراءات من الوكالة لن تجلب للعالم سوى أزمة طاقة كبرى وقد عبر وزير الطاقة السعودي الامير عبدالعزيز بن سلمان عن هذا الرأي بعدة مناسبات، ومنذ سنوات من أن هذه القراءات خاطئة لواقع سوق الطاقة وأكدت العديد من تقارير منظمة اوبك أن استهلاك النفط سيستمر بالنمو لوقت طويل جداً، وكذلك تحدث أمينها العام عن ذلك في مشاركات اعلامية عديدة..
لكن قبل أيام فاجأت الوكالة العالم بتقرير ينسف كل توقعاتها السابقة عن ذروة استهلاك النفط والتي غيرت تواريخه الوكالة عدة مرات قائلة ان النفط والغاز سيستمران بتسيد استهلاك الطاقة حتى عام 2050 بعد ان كان توقعهم السابق عام 2020 ثم تم تغييره الى 2030 وهكذا في كل مرة يضيفون سنوات دون تغيير في النظرة الى مفهوم سكن تقاريرهم ولم يفارقها وهو ذروة استهلاك النفط فلماذا غيرت الوكالة توقعاتها ؟
بدايةً التغيير لم يشمل فقط توقعات تاريخ الذروة الجديدة بعد 25 عاماً بل حثت الوكالة العالم على زيادة ضخ الاستثمارات بالنفط والغاز بواقع 540 مليار دولار سنوياً وهو ما يمثل تحولاً جذرياً بالنظرة لواقع سوق الطاقة فما يفهم من هذا التحول ليس صحوة بعد عودة من عالم الاحلام بل له دلالات مهمة فرضتها أحداث ووقائع جعلت الوكالة امام مأزق مهني بل ووجودي من حيث ضرورة بقائها كياناً موازياً يمثل المستهلكين مقابل المنتجين للنفط والغاز.
فالوكالة أثبتت بهذا التراجع انها كانت مدفوعة بعدة احتمالات من بينها انها كانت تصدر تقاريرها بدوافع سياسية وليست اقتصادية معبرة عن شريحة تناهض الطاقة التقليدية ممن يحكمون او يؤثرون بالسياسة داخل مجتمعات القوى الكبرى اقتصاديا، التي تعد مستهلكا كبيرا للطاقة وأطلقت بدفع منهم برامج عديدة لايقاف الاستثمار بالنفط والغاز، ووجهت الاموال وأصدرت القوانين المشجعة على انتاج الطاقات البديلة عموماً، وقد ثبت خطأهم في اول اختبار عملي لمزيج الطاقة لديهم عند اندلاع حرب روسيا أوكرانيا؛ فالاولى تعد المزود الرئيس للطاقة التقليدية لعموم اوروبا مما ادى الى ارتفاع تكلفة صناعاتهم وتحولت اقتصاداتهم نحو الركود، بل وأصبح نقص الطاقة وارتفاع تكلفتها مهدداً لصناعاتهم مما وضعهم امام حقيقة خطأهم التاريخي بالابتعاد السريع عن النفط والغاز.
وهناك احتمال آخر قد يكون موقفهم نابعا من نظرة عدائية وموقف شخصي من مسؤولي الوكالة وباحثيها اتجاه النفط والغاز، وهو ما أفقدهم المهنية وحول تقاريرهم للشخصنة اكثر منها للمهنية ظناً منهم أن الدول الكبرى اقتصادياً اذا تحولت للطاقات البديلة والتي تعد مستهلكة وليست منتجة للنفط والغاز بشكل عام فإن ذلك سيسرع بالوصول لذروة استهلاك النفط والغاز، متكئين على زخم الاستثمارات في هذه الطاقات الجديدة وأيضا سن القوانين والتشريعات التي تعيد هيكلة استهلاك الطاقة نحو البديلة للنفط والغاز بينما الواقع فرض نفسه، وقال كلمته بأن ذلك ليس إلا ضربا من الخيال، وأن المواقف الشخصية تعد مدمرة لمطلقيها ومن يستمع لهم..
أثبتت اوبك أنها الأدق بفهم وقراءة واقع سوق الطاقة فالوكالة لم تصحو من خطئها بل أراد مسؤولوها حماية انفسهم امام من يستمع لهم من المستهلكين الكبار، خصوصا ان ادارة الرئيس ترمب انتقدت الوكالة كثيراً، بل وترى ان الانسحاب منها اكثر فائدة لاميركا، وهو ما وضع الوكالة امام الحقيقة بأن تقاريركم خاطئة وستدمر اقتصاد دول كبرى واولها اوروبا ولذلك سارعت لتغيير توقعاتها وحافظت على رأيها بموضوع ذروة الاستهلاك كنوع من المكابرة لكن أبعدت التاريخ لربع قرن قادم وحتى ذلك الوقت لن يكون اي مسؤول او باحث بالوكالة من الحاليين موجوداً فيها، ولن يحاسبهم أحد في وقتها لكن المؤكد أن من استمع لهم سيدفع ثمن ذلك بتراجع اقتصاده بشكل كبير، ولذلك يمكن القول ان الوكالة فقدت أهميتها ومصداقيتها بل وحتى المبرر لاستمرارها.

