على ضفاف الخليج العربي تستجم قطر الهادئة الجميلة المشرقة بنظرة متلألئة تداعب أمواج الخليج المتتابعة، لا تحد طموحها الجغرافيا، ولا التاريخ. إنما طموح كبير، وافق عالٍ، وثقة في محلها، يحقق رؤاها اقتصاد قوي، وعزيمة لا تفتر، ونظرة ثاقبة بقيادة شابة. قطر اليوم أيقونة للنجاح وتجربة حقيقية ملهمة لكل من يؤمن بقدراته ويتحرك بعزم وإرادة وطموح. قطر اليوم لاعب سياسي واقتصادي له كلمته ودوره، لم تتوقف قطر عن طموحها ورغبتها في أن تكون في قمة الأحداث وعلى رأس العناوين الإعلامية.
أدركت قطر أن امتلاك أي شكل من أشكال القوة هو تحدٍّ وسط شرق أوسط يواجه تلاطم المصالح الدولية وتدافع دول عظمى ودول إقليمية ودول شرق أوسطية محيطة، على خريطة مصالح متداخلة ومتعارضة في نفس الوقت. ليس من السهل أن تعتمد أي دولة على قوتها الخاصة، بل من الواجب استثمار الأحداث والعلاقات والمصالح لخلق أدوات لعب وقوة تمكنها من أن تدير مصالحها الخاصة واقتصادها وفق ما ينعكس إيجابًا ولا يخلق عداوات مباشرة. وباتت حدود قطر الجغرافية هي حدود علاقاتها وحدود تأثير اقتصادها، وحدود الصدى الإعلامي الذي تثيره الأحداث الرياضية على أراضيها.
وإذ ينظر العالم إلى قطر كأحد أبرز الدول المصدرة للغاز وذات التأثير الاقتصادي الواضح، ينظر القطريون بعمق وحكمة إلى كل مظاهر القوة التي بين أيديهم لتتشكل قوة تأثيرهم في المحيط الإقليمي والدولي بشكل أوسع. وخلق القطريون قوة أكثر صدى، لا تقل تأثيرًا عن قوة الاقتصاد، إنها القوة الناعمة، التي صنعها القطريون بعزم وروية، فكان أول ظهور لذلك قناة الجزيرة التي أعادت رسم خطوط الإعلام العربي، الذي كانت تتسيد فيه القنوات الحكومية، وتنطلق القنوات الإخبارية تحت عناوين الاستقلالية عن منظومات الإعلام القديم. وأصبح صوت الدوحة مسموعًا لجمهور عربي عريض، تبعه إطلاق قناة الجزيرة باللغة الإنجليزية، ليصل معها صدى صوت قطر إلى كل أرجاء الأرض. ومن الإعلام بكل ما فيه من إثارة ورسائل بين السطور، إلى الرياضة بكل ما فيها من تفاعل جماهيري واسع، وبهجة وإنسانية. وكان تنظيم كأس العالم تحديًا حقيقيًا للكثير من المعطيات والأفكار والعزائم، والإحباط الذي كانت تشعر به بعض الشعوب العربية، معتقدة بوجود هوة حضارية بين الغرب وبين العرب. فجاءت قطر بخطوات واثقة وعزيمة راسخة ونجحت فيما شكك فيه الآخرون، ووسط مراهنات كثيرة، أثبتت قطر تفوقها وتجاوزها واستعدادها.
لقد أثبت القطريون من خلال تنظيمهم الناجح لمونديال كأس العالم 2022، أن العرب قادرون على الظهور بصورة مشرقة تضاهي بها الدول الأوروبية، لكن الدوحة أضفت شكلًا جديدًا لم يكن موجودًا في البطولات السابقة يتمثل في رسم هويتها العربية في البطولة، مؤكدة على المبادئ والقيم الإنسانية والإسلامية. وأرسلت قطر تحت مظلة تنظيم كأس العالم عدة رسائل إلى العالم، أولها رسالة سياسية عكست اللحمة الخليجية والعربية التي ظهرت طوال البطولة، في الكثير من اللقطات، بحضور عدد من الزعماء والرؤساء العرب في حفل افتتاح البطولة، إذ حضر سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بالرغم من ازدحام جدوله، في جولة آسيوية شملت العديد من الدول.
كما أن ظهور ولي العهد وهو يضع على كتفيه العلم القطري خلال المباراة الافتتاحية التي جمعت قطر والإكوادور، في حين قابله الأمير تميم بن حمد بن خليفة بوضع العلم السعودي على كتفيه خلال مباراة المنتخب الوطني والأرجنتين. وهما رسالتان ذاتا رمزية عالية، تفيدان بمدى قوة لُحمة دول الخليج، وأهدافهم النبيلة والمشتركة، وخاصة أن مباريات المونديال يشاهدها الملايين حول العالم.
أما الرسالة الاقتصادية، فكانت أن العرب لديهم القدرة على تنظيم البطولات الكبرى من خلال بنية تحتية رائدة، وميزانية قادرة على النهوض بهذه المناسبات العالمية الضخمة. وهي جهود تعكس مدى التطور الذي وصلت إليه قطر، ممثلة في ذلك كل دول الخليج وكل العرب. وتشكل صورة إيجابية جديدة في الذهنية النمطية لدى الغرب والشرق.
رسالة أخرى أرسلتها قطر عبر مونديال كأس العالم، تتمثل في ضرورة احترام قيم المجتمعات المحافظة، ومبادئ الإسلام، مما دفع باللجنة المنظمة للمونديال لاحترام إصرار قطر وثبات موقفها النبيل في منع شرب الكحوليات داخل الملاعب، ومنع مظاهر التعري، وكذلك منع رفع علم المثليين. غير أن عدم احترام بعض المنتخبات لهذه القيم أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الحرية التي ينادي بها البعض باتت تتعدى على حرية الآخرين، وقيمهم المجتمعية. وهناك من يسعى لفرضها بكل الأساليب.
مثلت قطر كل الدول الصاعدة والواثقة بقدراتها، وقدمت رسالة إنسانية للعالم. وكانت خير سفير خليجي وعربي في ذلك المونديال الضخم والعالمي.
واليوم تقف قطر من جديد استعدادًا لتقديم رسائل إنسانية أخرى عبر استضافتها لبطولة كأس العرب للفترة من 1 إلى 18 كانون الأول (ديسمبر) 2025، وما سيصاحب ذلك من فعاليات رياضية وجماهيرية، وسط أجواء مفعمة بالإثارة والتغطيات الإعلامية اللازمة. ومن المقرر أيضًا أن تستضيف قطر كأس العالم للناشئين تحت 17 سنة في الفترة من 3 إلى 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2025، والذي ستشارك فيه 48 منتخبًا. وما سيصاحب ذلك من فعاليات وتغطيات وصدى واسع.
وستبقى قطر تطل على العالم من خلال نافذة الخليج بالكثير من الحضور السياسي والرياضي والاقتصادي والإعلامي. أحداث تؤكد مكانة قطر وقدرتها وتفاعلها مع المحيط الإقليمي والدولي بنبرة صوت واضحة وهادئة وذات بعد نظر وحكمة. تتعامل الدوحة بذكاء أكثر مع الأحداث مما جعل العاصمة القطرية محطة تنعقد فيها أصعب المفاوضات السياسية ذات التأثير الإقليمي. وباتت تشكل لؤلؤة الخليج الوادعة مع سائر دول الخليج منظومة عمل سياسي واقتصادي تكاملي. تتوافق فيه الرؤى والمصالح. وتقوده الحكمة وبعد النظر. وتمثل قطر والسعودية اليوم تناغمًا مؤثرًا على الساحة الدولية، يدعم جهود السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. رأينا ذلك جليًا في قضية الشرق الأوسط الأولى، قضية فلسطين. ورأيناه في الجهود لدعم استقرار سوريا ولبنان ورأيناه في إدارة المفاوضات الدولية للكثير من القضايا المؤثرة ليس المقال كافيًا لذكرها.


