: آخر تحديث
هاشتاك الناس

الصحفي الفيلسوف

1
1
1

لأنني وعدت القرّاء أن أكتب عن الزملاء الأحياء من المبدعين، أولئك الذين ما زالوا يضيئون المشهد الثقافي بصدقهم ونقاء عطائهم، أجدني اليوم أفي بهذا الوعد، فأكتب عن زميلٍ أحببته لنظافة فكره وسلوكه، ولأسئلته الفلسفية التي يزرعها في نصوصه كما تُزرَع شتلات الوعي في أرضٍ عطشى للمعنى.

أكتب عن الزميل الدكتور طه جزّاع، الصحفي الفيلسوف، الذي حوّل الكلمة إلى مرآة تُرى فيها ملامح العقل وروح الإنسان معًا. حين تكتب عنه، تشعر أنك أمام تجربة تمشي على حافة الأدب والفكر؛ لا تدري أهو الصحفي الذي تمسّ فلسفته الحبر، أم الفيلسوف الذي اتخذ من الصحافة مختبرًا للأفكار.

لا أحد يعرف متى بالضبط بدأت بغداد تهمس في أذن طه جزّاع، لكنها —منذ زمن بعيد— اختارته واحدًا من أبنائها الذين يكتبون بمدادها، ويشربون من نهرها، ويتركون على أرصفتها ظلال أفكارٍ لا تزول.
ولد في حضن مدينة تتقاطع فيها أصوات القرّاء في الجوامع مع وقع خطوات الطلاب على بلاط الجامعة، فصار نصفه درسًا في الفلسفة، ونصفه الآخر عنوانًا في جريدة.

كتب في الصحافة بكل الأصوات الممكنة: كتب كحكيم، وكعاشق، وكناقد، وكمن يقف على حافة العالم ليصرخ:أيّها الناس… هذه بغداد! اكتبوا عنها كما تُحبّ، لا كما تُحزن.”

قلمه رشيق حين يكتب مقاله، لكنه عميق حين يتأمل المدن، يغوص في تفاصيلها الصغيرة، حتى المملة منها، ليكشف جمالًا لا تلتقطه إلا عين المحب وصبر المتأمل. وهو مولع بالتجربة الصينية، معجب بانضباطها وجمال انتظامها، لكنه —في الوقت نفسه— ابن العراق الأصيل؛ يحمل في نبرته طين البلاد ونور دجلتها، يمزج بين الذاكرة والمستقبل، بين الدهشة والتحليل، ولذلك ظلّ صوته مميزًا في الصحافة العراقية والعربية.

وليس طه جزّاع كاتبًا يبحث عن الضوء، بل هو من يصنعه. قلمه يلتقط تفاصيل الحياة اليومية برشاقة، ويحلل بعمق، ويصف المدن التي أحبها بلمسة عاطفية تحوّل التفاصيل الصغيرة إلى متعة سردية خالصة.

ومن عجيب أمره أنه كتب عن المتصوفة كما لو كان يجلس بينهم في زاوية يضيئها قنديل زيت. تحدّث عن رؤاهم، مجاهداتهم، وتأملاتهم، لكنه —كما يعاتب بعض محبيه— لم يفرد فصلًا عن “سكرات العشق” التي ملأت أشعارهم: تلك الحالة التي تجعل من الحب طريقًا إلى الله، ومن الخمرة رمزًا لجنون المعرفة الروحية.

أما كتبه، فليست مجرد مؤلفات؛ إنها مسافات قطعها ورحلات خطاها على الورق: "ابتسم أنت في بغداد"! — كتاب يضحك مثل بغداد حين تبكي. "يوتوبيا.. جدل العدالة والمدينة الفاضلة "— كأن أفلاطون يكتب جمهوريته من جديد. "بين الغيوم.. تحت الغيوم" — السفر الذي فاز بالجائزة الأولى لأنه يسير على الأرض بينما روحه تعلو في السماء. "الصين… مخالب التنين الناعمة " — رحلة في عمق القوة الهادئة. "كابوس ليلة صيف" — كابوس يكتبه رجل يعرف يقظة بغداد أكثر مما يعرف نومها.

وإن كانت الشهادة في حق طه جزّاع “مجروحة”، فذلك لأنها تأتي من قلوب تؤمن بأن الكلمة مسؤولية لا تُمنح إلا لمن يستحقها. وطه يستحقها كلها؛ لأنه جعل من الصحافة فنًا للفكر، ومن الفكر رسالة للإنسان، وظل كما نعرفه دائمًا: الصحفي الفيلسوف الذي لا يكتب من الخارج، بل من عمق الحياة.

طه جزّاع ليس صحفيًا عابرًا، ولا أكاديميًا كلاسيكيًا. إنه جسر بين عالمين: بين بغداد التي تكتب بخطٍ منحنٍ على النخيل، وبين الفلسفة التي تقيم محرابها في العقل. هو رجل إذا مررت بفكره ظننت أنك في مكتبة، وإذا قرأت مقاله ظننت أنك في مقهى بغدادي، وإذا شاهدته يشرح ظننت أنك في زمن آخر: زمن الحكماء.

جمع بين الحبر والطباشير، بين المقال والمحاضرة، بين الصحافة والمنطق، بين صخب المطبعة وسكينة المتصوفة. رجلٌ كتب عمره حرفًا فوق حرف، حتى أصبح اسمه —قبل سيرته— نصًا كاملًا لا يُختصر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.