: آخر تحديث

محمد العليني وسليمان الحيلي!

1
1
0

تتميز المملكة العربية السعودية بتاريخ عريق وإرث زاخر في كافة المجالات، كلما أبحر القارئ في بحره الذي لا ساحل له يكتشف في كل يوم شيئًا جديدًا وهو يقلّب صفحاته المضيئة. من هذه الصفحات شدتني جزئية صغيرة تستحق الوقوف عندها قليلًا، وهي اختيار الأسماء المستعارة التي لجأ مبتكروها لهذه الخطوة لمبررات مختلفة اقتضتها مسببات الظروف التي وُلدت فيها.

الرائد السعودي العظيم الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي رحمه الله قرأ قصائد الشعر وهو ابن التاسعة، وكان يُطلب منه إلقاؤها في الفعاليات المدرسية وغيرها، وبدأ كتابته وهو في المرحلة المتوسطة متنافسًا مع زميله في الفصل وصديقه الدائم لاحقًا الشاعر البحريني الراحل عبدالرحمن رفيع. كتب غازي ذات مرة قصيدة وأراد نشرها في مجلة المصور المصرية في الصفحة التي كان يحرّرها الشاعر المصري الراحل صالح جودت، وكانت المجلة في وقتها ذات قيمة ثقافية عالية وتستكتب كبار الشعراء والأدباء، فأرسل غازي قصيدته منطلقًا من إيمانه وقناعته بأنها لا تقل عن مستوى ما كان يُنشر آنذاك لشعراء كبار معروفين أمثال نزار قباني وأمين نخلة وزكي قنصل وغيرهم، فكتب له صالح جودت في نفس الصفحة: (إن قصيدتك تدل على موهبة ولكنك لا تزال بُرعماً). فتألم غازي من هذا التصرف، فأشار عليه شقيقه المرحوم عادل – وكان عالمًا بأسرار النفس البشرية على حدّ وصف غازي – بأن يرسل قصيدة أخرى باسم (محمد العليني) ضمن رسالة يكتب فيها: (أخصّكم بهذه القصيدة التي لم أنشرها من قبل في أي ديوان من دواويني أو أي صحيفة أخرى). فكانت المفاجأة أن نُشرت القصيدة، وعلّق غازي قائلًا إن القصيدة الأولى لا يقل مستواها عن الثانية مطلقًا بل كانت أفضل منها! ومنذ ذلك الوقت أدركتُ عقدة الأسماء، وظلّ القصيبي ينشر قصائده في المجلة باسم محمد العليني حتى عام 1958 عندما التقى بصالح جودت وقال له القصة الكاملة، ومنذ ذلك الحين نشر قصائده باسمه الحقيقي.

أما (سليمان الحيلي) الذي لم يرتبط بالشعر أو النثر بسبب أو نسب، ولم يكن حتى شخصية حقيقية، فقد كان شفرة سياسية عميقة بين اثنين من دهاة السياسة في العصر الحديث. جاءت تفاصيل قصة هذه الشخصية التي سأكتبها الآن عبر البرنامج الوثائقي (حرب الخليج) إنتاج قناة (إم بي سي) عام 1997. في منتصف كانون الثاني (يناير) 1991 انتهت المُهلة التي منحها مجلس الأمن لنظام المقبور صدام حسين لكي يسحب قواته من دولة الكويت الشقيقة، وإلا سوف يتم إخراجه منها بالقوة. وفي ليلة تنفيذ الهجوم كان سفير المملكة لدى الولايات المتحدة الأميركية في ذلك الحين صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود متعه الله بالصحة والعافية موجودًا في العاصمة الأميركية واشنطن مع وزير الخارجية حينها جيمس بيكر، الذي أبلغه بأن قوات التحالف الآن مستعدة لبدء العمليات الجوية وساعة الصفر تمام الثانية فجرًا بتوقيت الرياض، وأنهم الآن بحاجة لإذن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – لبدء العمل. وطلب بيكر من الأمير بندر الاتصال بالملك عبر الهاتف المشفّر، لكنّ الأمير بندر استخدم الهاتف العادي واصفًا كلمة السرّ التي بينه وبين الملك بأنها صعبة لدرجة لن يتمكن معها حتى جهازي الاستخبارات الأميركية والسوفييتية مجتمعين من حلّها. فاقتنع بيكر، واتصل الأمير بالملك، وكان اتصالًا عاديًا، وبعد حديث روتيني قال الأمير في نهاية المكالمة للملك: طال عمرك.. (عائلة سليمان الحيلي)! فردّ الملك على الفور: (إيه!! كيفهم؟!) فقال الأمير بأن وضعهم صعب وأفضّل إرسالهم إلى المملكة. فسأله الملك: (متى بترسلهم؟) فردّ الأمير بندر: الساعة الثانية. فقال الملك فهد: (الله يكتب اللي فيه الخير، ما فيه مانع). وانطلقت عملية عاصفة الصحراء التي آذنت لاحقًا بتحرير دولة الكويت الشقيقة بشكل كامل مع انتهاء يوم السادس والعشرين من شباط (فبراير) 1991.

مثل هذه التفاصيل البسيطة، إلى جانب متعة الاستماع إلى روايتها من أبطالها أو ممن عاصروها، تدهشك الظروف التي نشأت فيها ودلالات تركيبها اللغوي الفريد، كما حصل أيضًا مع صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز آل سعود، أمير منطقة مكة المكرمة والمستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين، متعه الله بالصحة والعافية، عندما اختار اسمين مرادفين لاسمه الثنائي الحقيقي وهما (دايم السيف) ليوقّع به قصائده في بدايات تجربته الشعرية فائقة التميز والإبداع.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.