لم يظنَّ الإنسانُ يومًا أن ذاكرته ستهاجر منه،
لكنّه، حين اخترع "التخزين السحابي"، رفع قلبه إلى الغيم دون أن يدري.
فما عاد للروح يقينٌ تستقرّ عليه،
بل غدت تسبح في وهمٍ يظنّه العقلُ خلودًا، ويسمّيه الغيمُ ذاكرة.
فصارت الغيومُ الجديدةُ لا تمطر ماءً، بل تمطر نسخًا من أنفسنا.
وهناك، في العلوّ الإلكتروني، نرفع صورنا كأننا نُشيّعها في جنازةٍ بيضاء،
ونودِع حكاياتنا في ذاكرةٍ لا تعرفنا.
نؤمن بأنها ستحفظنا، لكنها لا تذكرنا حين تُطفأ الأجهزة ويغيب الضوء.
فكلّ ملفٍّ نرفعه إلى العلوّ ليس سوى شاهدٍ على خوفنا من الفناء.
حيث نرفع إليه ما لم نعد نحتمله، نكتب أسماءنا في سطرٍ من كودٍ،
ثم نصدّق أنّ الخلود صار مجرّد كلمة مرور.
يا للعجب.. كيف تحوّل الإنسان من حافظٍ للأسرار
إلى مُحمّلٍ لها على سحابةٍ باردةٍ لا روح فيها؟
وكيف استبدل دفءَ الورق ببرودة الشاشة،
وحرارة الذكرى ببرود التخزين؟
فالآلة تحفظ… لكنها لا تتذكّر،
تُسجّل… لكنها لا تشتاق.
تعرفُ "متى" و"كم" و"أين"،
لكنّها لا تعرف "لماذا" و"بِمَن".
إنها تُعيد ترتيب المشاعر كملفاتٍ،
لكنها تعجز عن لمس نبضةٍ واحدةٍ من الحنين.
أما الإنسان، فهو الكائن الذي ينسى ليبقى.
ينسى التفاصيلَ ليحفظ جوهرها،
ويُخطئُ الطريق ليجد المعنى.
إنه ذاكرةٌ تمشي على الأرض،
كلُّ نسيانٍ فيها طريقٌ إلى وعيٍ أعمق،
وكلُّ حزنٍ فيها تحديثٌ لنسخةٍ أنضج من ذاته.
فيا أيها الإنسان، احفظ ما استطعت من ظلالك في السحابة،
أما جوهرك، فلا خوادم تحمله،
ولا "تسجيلَ دخولٍ" إلى مساحاته الخفية.

