: آخر تحديث

التعظيم.. والأعظم في المسألة السورية

0
0
1

لقي الرئيس السوري أحمد الشرع، رغم حداثة ترؤسه، اهتمامًا غير مسبوق من الإدارة الأميركية ودول الأطلسي عمومًا. وها هو الرئيس دونالد ترمب يُعطيه من التعظيم والاهتمام ما لم يحظَ به حاكم سوري من قِبَل الإدارات الأميركية المتعاقبة. وهو، من جانبه، قرأ دواعي الاهتمام، ولذا تتحدث الأوساط العالمة بالخفايا عن توجّه أميركي لإنشاء قاعدة عسكرية في سوريا، فتُوضح هذه بدورها، وإن جاء ذلك بغير بيان رسمي، ربما حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسمر الترمبي بعد لقاء الرئيس المصدوم بهذا الفوز المبهر، الذي حقّقه ابن الأربعة والثلاثين عامًا، زهران ممداني، الأميركي الجنسية، الأوغندي الأصل، المسلم دينًا، والذي تحدّى بأصول التحديات السياسة الترمبية، فجعل الرئيس ترمب يصبّ جام غضبه على هذا الفوز للحزب الديمقراطي، غير المرغوب حدوثه، وبالذات في مدينة نيويورك، العاصمة المالية والعقارية والمصرفية الأهم في الولايات المتحدة، فضلًا عن أن مرشحًا مهاجرًا ومُسلمًا اقترع له يهود نيويورك بنسبة تفوق التوقع.

واللافت للانتباه أن الحكومات العربية لم تتفاعل تصريحًا مع هذا الفوز، فتُصدر هذه أو تلك بيان ترحيب بفوز لم يسبق حدوثه في تاريخ الولايات المتحدة. ومن شأن مواقف يتخذها مستقبلًا الرئيس الجديد، الديمقراطي حزبًا ونهجًا، لبلدية عاصمة الأعمال والأموال نيويورك، أن تُشكّل مكاسب معنوية للقضايا التي تُكابدها شعوب دول العالم الثالث، وبالذات حتى إشعار آخر: شعب غزة، وشعب لبنان، وبينهما شعب السودان.

والاهتمام التعظيمي اللافت من جانب الإدارة الأميركية بالحكم السوري الجديد، والتعامل مع رئيسه وكأنما هو في سدّة الرئاسة منذ سنوات، مع أنه في الأشهر الأولى، يحملان على التساؤل عن ذاك الإسقاط السريع لورقة نظام بشار الأسد، مقابل إبراز لافت لورقة الرئيس الجديد لسوريا أحمد الشرع، الذي تُفتح له الأبواب التي كانت مغلقة حتى الأشهر الثلاثة الأولى من ترؤسه، في حين أن بشار الأسد كان يفترض أن وقفة والده مع دول التحالف، بتخطيط الرئيس بوش، التي ساعدت في إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، ستلقى من الإدارة الأميركية عهدًا بعد عهد، وصولًا إلى العهد الترمبي الحالي، اهتمامًا ورعاية ودرء مخاطر يتعرض لها النظام من الجماعات الإسلامية التي كانت بدأت تنشط في دول الإقليم. وليس غائبًا من الذاكرة ذلك اللقاء الذي جرى في قصر الرئاسة السورية بين الرئيس الوريث، على وجه السرعة، بشار الأسد، ووزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت، التي جاءت خصيصًا للتعزية شكليًا برحيل الرئيس حافظ الأسد، ولإبلاغ ابنه الوريث بشار موقفًا منه ترى الإدارة البوشية التأكد منه أو تطلب منه اتخاذه لكي تستقر العلاقة بين الولايات المتحدة وسوريا في عهد الابن الوريث. وكان لافتًا أن أولبرايت، وهي مع مجموعة معزين ومسؤولين حاضرين، طلبت من الرئيس بشار الانفراد به، فدخلا إحدى غرف مبنى الرئاسة، وبعد قليل خرجت مادلين أولبرايت من اللقاء وهي منفرجة الأسارير، ما يعني أن ما سمعته من الرئيس بشار ردًا على استفساراتها، وربما على طلباتها منه، كان موضع الرضى الأميركي.

ويبدو أن المردود الأميركي لم يكن على نحو التوقع البشاري، ومن هذه الثغرة كان التسلل الإيراني، وبما حقق ارتياحًا وطمأنينة للنظام السوري، ربما من دون أن يخطر في بال الرئيس بشار أن الانفتاح الإيراني الرحب عليه له مطالب للتسديد. وكان التسديد شحنات سلاح وصواريخ إيرانية إلى "حزب الله" في لبنان عبر مسالك مأمونة السرية، ثم تطوّر الأمر إلى درجة أن إيران بدأت تؤسس مراكز مدنية وعسكرية ودينية تربوية، من ضمنها تعليم اللغة الفارسية في دمشق بالذات، كما استحوذ سليمانها (قاسم سليماني) على مكانة الشراكة المستترة في اتخاذ القرار في سوريا، وكما لو أنه ظلّ النظام البشاري. ومن مظاهر هذا التطور أن مقاتلين من "حزب الله" بدأوا يتمركزون في مناطق سورية ويتصدّون بجسارة لتنظيمات معارضة للنظام بدأت تنشط، ومنها على سبيل المثال لا الحصر التنظيم الذي كان يقوده أحمد الشرع، وبات في ضوء ممارسة تركيا الأمنية والمخابراتية واللوجستية، دور المساند إلى جانبه بأعلى الدرجات، هو الأقوى بين تلك التنظيمات. ثم باتت الأمور في مسار التطورات تجعله الأكثر فعالية، وبحيث أمكن للتنظيم الذي في عهدة الشرع إسقاط النظام البشاري، ويلقى من التعاطف الإقليمي العربي والإسلامي، والرصد الأميركي إلى جانب التركي، الرعاية والاهتمام، وإلغاء قرارات بالغة القساوة اتُخذت في حينه، ثم طواها المعاقِبون، وبالذات الولايات المتحدة وبريطانيا بعد حين. وجاء أحد الإلغاءات عشية لقاء الرئيس ترمب بالرئيس الزائر في البيت الأبيض للمرة الأولى، بعد لقاء عابر رعاه ولي عهد المملكة العربية السعودية، رئيس مجلس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان، وبدا قادة الخليج، القوي بهذا اللقاء، يُبلغون الرئيس ترمب بأنهم الكفيل الضامن للرئيس الشرع.

ويبقى أنه، في حين يصل الرئيس السوري أحمد الشرع إلى ذروة الاهتمام الخليجي والأميركي، فإن التساؤلات لم تجد إجابة في شأن لجوء الرئيس بشار الأسد، ومعه زوجته وأولادهما، إلى موسكو، وليس إلى طهران أو إلى دولة عربية من تلك الدول التي كانت اقتربت منه بعدما تقرّب سياسيًا واستراتيجيًا منها. هل كان بذلك يرى الطمأنينة متوافرة أكثر في الديار الروسية، باعتبار أنه أعطاها الكثير: دورًا وقاعدتين، إحداهما البحرية وهي الأهم، حيث لا قاعدة لروسيا على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، وأما القاعدة الجوية، فإنها، على رغم أهمية موقعها، لم تؤدِّ الحماية اللازمة في ساعة الشدة التي تمثلت بتساقط النظام الأسدي بأهون السبل، وصولًا إلى قصر الرئاسة، الذي استعجل الرئيس بشار مغادرته مصحوبًا بأفراد العائلة الشخصية، تاركًا العائلة الكبرى (الطائفة العلوية) تكابد مرارة ممارسات عشوائية في العهد الجديد، انتقامًا لممارسات يفوق التعذيب الممنهج فيها التصور. وهكذا بات المصير لجوءًا للشقيق بشار في موسكو، وللشقيقة بشرى، التي بعدما ترملت في دمشق وفقدت الشأن الذي نالته بعطف من والدها، الرئيس الراحل حافظ الأسد، اختارت الإقامة معزّزة مكرّمة في دولة الإمارات.

المشهد السوري النادر الحدوث، والذي لا مثيل له بهذه الإيقاعات السريعة، هو أن أحمد الشرع أول رئيس سوري موضع التعظيم في البيت الأبيض، للمرة الأولى في تاريخ سوريا، التي كانت قلب العروبة النابض، والتي قد تُتوّج الزيارة لاحقًا بما هو أهم، وفي ضوء إطراءات توم باراك، فضلًا عن الإسراع في رفْع العقوبات، بحيث تُمثّل سوريا دور الرئة العربية للتطلعات الترمبية التي كانت بدأت بـ"إهداء" الجولان لإسرائيل، واستكمال "الهدية الترمبية" بتطبيع متدرج، ومن دلائله هذا الاهتمام الأميركي – الخليجي غير المسبوق، على مدى نصف قرن، بالعهد "الشرعي" الذي يحلّ محل "العهد الأسدي – الإيراني – الروسي". وما هو آتٍ، في ضوء هذا التعظيم، ربما يكون الأعظم للجار اللبناني الحائر، المسكين، المستكين.

فؤاد مطر


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.