أصبحت بعض المفاهيم النفسية "الشائعة" وقودًا لكتبٍ ومقالاتٍ ومحاضراتٍ واسعة الانتشار. لكن وراء هذا الزخم، تختبئ حقائق علمية تُظهر أن هذه الأفكار غالبًا ما تفتقر إلى الأساس التجريبي، أو أنها مُبسَّطة إلى حد التحريف، إليكم خمسة مفاهيم شائعة، لكنها ليست كما يُروَّج.
المفهوم الأول: أننا "نستخدم 10 % فقط من دماغنا"؛ هذه الخرافة التي أُحيطت بهالةٍ سينمائية في أفلام مثل Lucy، تُستخدم لبيع كتب التطوير الذاتي بوعود "تحرير الـ90 % الكامنة". لكن العلم يُفنِّد هذا: تقنيات التصوير العصبي (مثل الرنين المغناطيسي الوظيفي) تثبت أن جميع مناطق الدماغ نشطة في مهام مختلفة، حتى أثناء النوم. الفكرة نشأت من سوء فهم لتصريحات عالم الأعصاب "ويليام جيمس" في القرن العشرين، لكنها الآن أسطورة تُستخدم لتسويق الوهم أن البشر قادرون على "قوى خارقة" لو أرادوا.
المفهوم الثاني: هو مؤشر أنماط الشخصية لمايرز-بريغز (MBTI)؛ رغم انتشار هذا الاختبار في الشركات ومواقع التواصل، فهو ليس أداة علمية. صممته كاتبتان غير متخصصتين في الخمسينيات، مستندتين إلى نظريات يونغ الفلسفية، وليس إلى بيانات ميدانية. المشكلة تكمن في ثبات النتائج: فالشخص نفسه قد يحصل على تصنيفات مختلفة عند إعادة الاختبار، كما أن النموذج يتجاهل تعقيد الشخصية الإنسانية التي تتفاعل مع السياقات. المقابل العلمي الحقيقي هو "العوامل الخمسة الكبار" (Big Five)، الذي يعتمد على أبحاث قابلة للتكرار.
المفهوم الثالث: قانون الجذب؛ بعد كتاب وفيلم The Secret، تحولت فكرة "جذب الثروة عبر التفكير الإيجابي" إلى مذهبٍ ثقافي. يستند هذا المفهوم إلى تفسيرات خاطئة لفيزياء الكم، كادعاء أن "الطاقة الكونية تستجيب للأفكار". لكن علم النفس المعرفي يؤكد أن التفاؤل قد يُحسّن الأداء عبر تحفيز السلوك (مثل العمل الجاد)، وليس عبر "جذب الفرص سحريًّا". الأسوأ أن هذا الخطاب يُهمل العوامل الاجتماعية والاقتصادية، مُحمّلًا الفرد مسؤولية فشله حتى في ظل الظروف القاهرة.
المفهوم الرابع: مراحل الحزن الخمس؛ قدمت "إليزابيث كوبيلر-روس" نموذجها (الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، القبول) عام 1969 لوصف ردود فعل مرضى السرطان، لكنها حذّرت من تعميمه. اليوم، يُقدَّم كـ"خارطة طريق" إلزامية للحداد في الروايات ومقالات التنمية البشرية. الحقيقة أن الحزن عملية فوضوية وغير خطية، فالتجربة الإنسانية لا تُقاس بقوالب جامدة.
المفهوم الخامس: هو البرمجة اللغوية العصبية (NLP)؛ تنتشر ادعاءات في كتب "فن الإقناع"، كربط حركات العين بـ"الكذب" أو اعتبار اللغة الداخلية مفتاح التغيير السحري. رغم شعبيتها في التدريبات، رفضتها الجمعيات العلمية (مثل الجمعية النفسية الأمريكية) لافتقارها إلى الأدلة. تحليل 315 دراسة في Neuroscience & Biobehavioral Reviews (2012) خلص إلى أن NLP "لا تؤثر على السلوك أكثر من الدواء الوهمي".
هذه المفاهيم تبقى رائجة لأنها تقدم إجابات مريحة لأسئلة معقدة، وتتناغم مع رغبة الإنسان في التحكم المطلق في مصيره. لكن كما قال عالم النفس كاري دواير: "العلم ليس مجموعة إجابات، بل منهجية للشكّ البنّاء". المثقف الحقيقي ليس من يُعيد إنتاج الأفكار الجذابة، بل من يفحص مصادرها ويفرق بين ما هو واقعي وما هو وهم.
في المنطقة العربية، تبرز مبادرات مثل "العصابة العلمية" في مصر، ومشروع "الباحثون السوريون" الذي تُرجم الأبحاث النفسية إلى محتوى عربي مبسَّط. تؤكد أن التحدي ليس نشر العلم فحسب، بل صنع ثقافة تحترم الشك البنّاء. حيث نجحت هذه المشاريع في الوصول إلى أكثر من مليون قارئ سنويًّا، مُثبتة أن المحتوى العلمي الدقيق قادر على المنافسة مع الخرافات، لكن الخطر يبقى في "الاستشهادات المنتقاة" التي يُعيد الكتّاب تداولها دون تحقق. فالمثقف مسؤولٌ عن أن يكون جسرًا بين المعقد والقارئ، لا ناقلًا لأوهام تُزيّن بعباءة العلم. يقول روبرت كيوف: "العلم ليس رأيًا، بل عملية.. الحقيقة لا تُفرض بالحماس، بل تُكتشف بالبرهان".

