يتفق المختصون في أيديولوجيات الإسلام السياسي وما تولد عنها من انشقاقات فكرية وتنظيمية، بأن كلاً من تنظيم القاعدة وما تولد عنها فيما بعد من تنظيم داعش وجبهة النصرة، هي النسخ الأكثر تطرفاً ووحشية في تاريخ السلفية الجهادية، والتي انطلقت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، في كثير من المفاصل السياسية التي مرت بها المنطقة لفرض وجودها، بل وصدّرتها إلى أفغانستان إبان الاحتلال الروسي في ثمانينيات القرن المنصرم، ومن ثم إلى العراق وسوريا وشمال أفريقيا.
وجود السلفية الجهادية في أفغانستان ووصولها إلى الحكم بالتوافق ودعم حركة طالبان بعد الانسحاب الروسي وما تلاه من احتلال أميركي، دفع إلى انتشارها في أنحاء متفرقة من منطقة الشرق الأوسط، ولعل العراق كان البيئة الخصبة لنموها سريعاً بعد سقوط نظام صدام حسين، لتنتقل إلى سوريا بعد ما سمي بثورات الربيع العربي، ليبدأ فصل جديد في تاريخ هذه الأيديولوجية.
بالنظر إلى حقبة اندماج ما كان يعرف بدولة العراق الإسلامية وجبهة النصرة لأهل الشام تحت مسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) بإمارة أبو بكر البغدادي، وما تلاها من فوضى دعت إلى إيجاد تحالف دولي ضد التنظيم، تقلّصت من مناطق نفوذه وسيطرته، فمنذ عام 2014 استطاع التحالف توجيه ضربات قاصمة في البنية التنظيمية وما يعلوها من هرم تسلسلي قيادي، أسهمت في إضعاف انتشاره وتأثيره، مستثمرة حصاد سنوات من الخلافات بين البغدادي وأبو محمد الجولاني (أحمد الشرع حالياً) لصالح الأخير، الذي تمكن من إعادة ترتيب الصفوف التنظيمية للسلفية الجهادية في شمال وغرب سوريا تحت غطاء واحتواء أميركي تركي، بذات المرجعية الأيديولوجية المحكومة بفتاوى وتفسيرات وتحكيمات أيمن الظواهري.
استطاعت، في زمن قياسي، هيئة تحرير الشام إحداث اختراق في سيطرة النظام السوري السابق، والاستحواذ على كامل الدولة انطلاقاً من مركزها الأساسي مدينة إدلب، دون إغفال جملة معطيات سياسية وعسكرية متكاملة العناصر أعادت رسم خارطة النفوذ والمحاور في الشرق الأوسط منذ ما يقارب العامين.
لقد أضحى جلياً، ومنذ اليوم الأول لدخول قوات الشرع دمشق، أن النظام الجديد قرر خلع ثوب السلفية الجهادية والانخراط بمعدلات ومفاهيم الدولة الوطنية، للانسجام مع المحيط العربي الساعي لتثبيت أركان نظام الشرع لسد الفراغ الإيراني والروسي على الأراضي السورية، كمقدمة للانضمام إلى معسكر الدول الغربية التي تريد توظيف موقع سوريا الجيوسياسي لحسم باقي الملفات الدولية الشائكة.
براغماتية نظام الشرع ذات النسق المتصاعد اصطدمت مع بقايا تنظيم داعش، أو بتعريف أدق ورثة أبو بكر البغدادي، الذين قرروا التمرد على اصطفافات أحمد الشرع السياسية، بل وتصفيته جسدياً من خلال محاولات اغتيال متحررة أدت جميعها إلى الفشل، لما يشكله مساره من تهديد فكري لأسس الأيديولوجية القائمة عليها تنظيما داعش والقاعدة.
بوضوح، سعى نظام أحمد الشرع إلى التخلص من ماضيه بانفتاحه على الغرب، وعدم تكرار تجربة طالبان ونظام حكمها في أفغانستان، وتقديم ضمانات سياسية تتيح الاستقرار في المنطقة من خلال خلق هوامش سياسية مرنة، تسمح بقبول مبدأ التفاوض مع إسرائيل تمهيداً لاتفاق سلام يستكمل حالة بناء التعايش السلمي التي بدأتها دول في المنطقة، واستكملت بالاتفاقيات الإبراهيمية مؤخراً، ما يضع أغلب أيديولوجيات الإسلام السياسي وما يدور في فلكها بشكل عام والسلفية الجهادية بشكل خاص أمام حقيقة أن العنف والإرهاب ليسا السبيل لحل الصراع في المنطقة.
رهان البعض على نموذج أحمد الشرع في سوريا، إن كتب له الاستمرار والنجاح في بناء مقومات دولة المواطنة المتساوية لجميع فئات ومكونات المجتمع السوري بالسبل الديمقراطية، وجلب الاستقرار الذي سينعكس على المنطقة من خلال تبني الخيار السلمي فقط في التعاطي مع تعقيدات قضايا الداخل السوري من جهة، ومن جهة أخرى الملفات الإقليمية، فهو مدخل حقيقي يُبنى عليه لوأد الأيديولوجيات التي اعتمدت السلفية الجهادية طريقاً في تحقيق مآرب سياسية للوصول إلى حكم دول وشعوب.


