: آخر تحديث

رسالة واشنطن إلى بيروت: السيادة المالية نواة السيادة الوطنية

1
1
1

لم تكن زيارة وفد الخزانة الأميركية إلى بيروت هذا الأسبوع بمثابة مجاملة بروتوكولية، بل إنذاراً سياسياً واضحاً بأنّ لبنان يقف عند عتبة مرحلة جديدة. فالإدارة الأميركية لم تأتِ لتكرّر كلامها عن دعم الجيش أو الإصلاح المالي، بل لتؤكد أن السلام والإصلاح شرطان للسيادة، وأن الدولة التي لا تضبط مالها وسلاحها لن تتفرد بقرارها أبداً.

يُعَد اللقاء الذي جمع الرئيس جوزف عون بالوفد برئاسة الدكتور سيباستيان غوركا، نائب مساعد الرئيس الأميركي لشؤون تمويل الإرهاب، مؤشرًا على هذا التحوّل. فالرئيس تحدّث عن الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمناهضة تبييض الأموال والتهريب، وعن تعديل قانون السرية المصرفية وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. غير أن الفجوة بين النصوص والتطبيق تبقى هائلة، لأنّ لبنان يتقن فنّ إدلاء التصريحات أكثر من فنّ التنفيذ.

ما أرادت واشنطن أن تسمعه من بيروت لم يكن تكرار سرد القوانين بل طرح رؤية جديدة: كيف تنوي الدولة استعادة سيادتها من الناحية الاقتصادية، وكيف ستمنع تحويل نظامها المالي إلى ساحة نفوذٍ لقوى خارجية، تحديداً لإيران وحلفائها. فالإدارة الأميركية باتت تعتبر أن الفساد المالي والارتهان السياسي يشكّلان جبهة واحدة، وأنّ اقتصاد لبنان أصبح في حدّ ذاته سلاحاً في يد طهران، يُستخدم لتثبيت نفوذها عبر تمويل شبكة المصالح والتهريب والميليشيات.

من هنا جاء الموقف الأميركي هذه المرة حازماً: لا يكفي أن يعلن لبنان التزامه بمكافحة تبييض الأموال، بل عليه أن يُثبت ذلك بأفعالٍ ملموسة وعلنية، ومصادرة أموال، وملاحقة شبكات، إضافة إلى محاسبة المسؤولين. فالمجتمع الدولي لم يعد يقيس النوايا بل النتائج. كل تأخير في تطبيق هذه الإجراءات يعني عملياً الإبقاء على البنية التي تمكّن حزب الله من العمل خارج النظام المالي الرسمي، وتحويل الدولة إلى واجهة قانونية لاقتصادٍ موازٍ.

إنّ واشنطن لا تفصل بعد اليوم بين الإصلاح المالي والاستقرار السياسي؛ إذ أن كلاهما وجهان للسيادة ذاتها. والمطلوب من لبنان أن ينتقل من مرحلة "إدارة الأزمة" إلى مرحلة بناء الثقة، حيث تصبح الشفافية ركيزة الحكم، والمساءلة مبدأ لا استثناء. أما الإصلاح فلم يعد مطلباً أميركياً أو شرطاً لصندوق النقد، بل أصبح مصلحة وطنية عاجلة، لأن اقتصاداً غير منضبط لن يبقى اقتصاداً وطنياً بل أداة نفوذ خارجي.

في هذا السياق، ينبغي على الحكومة اللبنانية أن تتحرر من ضغط القوى التي عطّلت الإصلاح لسنوات، من حزب الله إلى جماعات الضغط المالي والسياسي التي تحاول حماية مصالحها باسم "الاستقرار". هذه القوى لا تخشى العقوبات بقدر ما تهاب الشفافية. كل خطوة إصلاحية حقيقية تُضعف منظومة التهريب والتحايل التي تشكّل شرياناً مالياً للمحور الإيراني، وكل تراجع عن تنفيذ هذه الخطوات يعمّق تبعية لبنان ويقوّي سلطة الأمر الواقع.

إنّ الدولة التي تسمح لميليشيا بأن تدير معابرها وحدودها، لا يمكن أن تزعم مكافحة تمويل الإرهاب. وكل شحنة مهرّبة أو تحويل مالي غير شرعي ليس مجرّد خرقٍ للقانون، بل اعتداء على السيادة. لا يستطيع لبنان أن يفاوض على مستقبله فيما اقتصاده رهينة، ولا أن يؤسس لسلامٍ فيما موازنته تُموَّل عبر التهريب والتهرّب الضريبي. الإصلاح المالي، في جوهره، هو عملية تحرّر سياسي من وصاية المال الأسود والسلاح الخارج عن الدولة.

لقد أشار الرئيس عون خلال لقائه إلى مشروع قانون لمعالجة "الفجوة المالية" وإلى استمرار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. لكن الصندوق لا ينتظر بيانات جديدة بل يتطلع إلى إرادة جديدة. فكل الأرقام أصبحت معروفة، وكل الشروط معلنة، وما ينقص هو قرار سياسي ينهي الحصانات ويبدأ المحاسبة. الإصلاح الحقيقي لا ينطلق من الدفاتر، بل من كسر الحلقة التي تربط السلطة بالفساد.

أما الوفد الأميركي، فشدّد من جهته على دعم الجيش وتمكينه لجهة بسط سلطة الدولة، لكنه أوضح أن الدعم العسكري لن يكون بديلاً عن القرار السياسي. والسلام في الجنوب لن يتحقق ما لم تُستكمل خطة حصرية السلاح وتنشر الدولة جيشها حتى آخر الحدود. وكما طالب الرئيس عون بالضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها وتنفيذ القرار 1701، فإنّ المجتمع الدولي يطالب لبنان بدوره بتنفيذ التزاماته: سيادة واحدة وسلاح واحد.

لا يقتصر التحوّل الأميركي الأخير على اللغة الدبلوماسية، بل يعكس قناعة مفادها أنّ لبنان لا يمكن أن يبقى في حال المراوحة. المطلوب أن يدخل البلد في مرحلة جديدة عنوانها السلام والإصلاح والمحاسبة. والاستقرار لن يُمنح مجاناً، والمساعدات لن تتدفق بلا إصلاحات، والغطاء الدولي لن يَدوم إذا استمرّت الدولة في تغطية الفساد والسلاح.

إنّ أخطر ما يمكن أن يفعله لبنان اليوم هو أن يخضع مرةً أخرى لمنطق المساومة: أن يرضي حزب الله بتجميد الإصلاحات، أو أن يُرضي جماعات المال بإبقاء النظام المصرفي غامضاً. الدولة التي تخاف من مواجهة مصالحها الداخلية ستخسر مكانتها الدولية واحترام الخارج لها. ومن يتوهم أنّ الصمت يحافظ على "التوازن"، نَسِيَ أن هذا التوازن هشّ، وأنّ انهيار الثقة أخطر من أي عقوبة.

الولايات المتحدة، كما شركاؤها في الغرب، لم تعد تفصل بين سيادة لبنان وسلامه الاقتصادي. ما تطلبه ليس وصاية، بل شراكة قائمة على الوضوح. فهي ترى أن الاستقرار يبدأ من الإصلاح، والسلام يبدأ من اتخاذ القرار. أمّا الاستمرار في التردّد فسيجعل من لبنان ساحةً بلا دولة، وحدوداً بلا حارس، واقتصاداً بلا هوية.

لا يفتقر لبنان إلى الخبرات ولا إلى النصوص، بل إلى الإرادة. وهذه الإرادة وحدها هي التي ستعيد إليه مكانته. فالدولة التي تفشل في حماية نظامها المالي لن تنجح في حماية حدودها، ومن لا يجرؤ على محاسبة اللصوص لن يجرؤ على نزع سلاح الميليشيات. لذلك، إنّ الخطوة الأولى نحو السلام ليست في التفاوض مع الخارج، بل في مواجهة الداخل. فهناك فقط تُبنى السيادة، وتُكتب بداية جديدة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.