من يرد أن يتفاوض مع الدول المتقدمة عليه أن يكون لديه ما يقايضهم به من منتجات يحتاجونها ويحتاجها العالم.. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتركيز على البحث والتطوير والابتكار.. وللأسف لا يحظى هذا النشاط في الدول النامية بما يستحق من جهد ومال وعنصر بشري بسبب الجهل بأهميته، وبسبب البيروقراطية المقيدة لانطلاقته..
البيت للمتنبي حيث يقول: إن الرأي قبل شجاعة الشجعان. لكن الشيء المؤكد في هذا الزمان وكل زمان أن العلم هو الأداة الناجحة لامتلاك القوة بكل مكوناتها، وأهمها القوة الاقتصادية التي هي الأساس للقوة العسكرية والسياسية والاجتماعية، والعلم لا يقتصر على الجانب العلمي والرياضيات والهندسة والطب فقط، لكنه يقدم أفضل الحلول لكل ما يواجه الدول من تحديات، كالتصحر، ونقص المياه الصالحة للشرب، والفقر والمرض، والحروب، وحبائل الأيديولوجيا ومطامع الدول وتدخلاتها، حين يوظف العلم للمزيد من القوة ومعرفة التحديات التي تواجه العالم وأسبابها، يقدم في الوقت نفسه أفضل الحلول للتعامل معها.
قد تكون الحلول العلمية أطول وأكثر كلفة، لكنها الأقرب للحلول الصحيحة، والأقل تكلفة في النهاية. تذكرت ذلك وأنا أقرأ مقالاً للدكتورة هدى الحسيني في جريدة الشرق الأوسط عن التعاون بين أوكرانيا وأميركا، وكيف تحولت أوكرانيا بفضل العلم والابتكار الذي انتهجته لمواجهة متطلبات الحرب التي امتدت لثلاث سنوات ونصف إلى دولة تصدر التقنية في مجال الطائرات المسيرة، أوكرانيا تقف اليومَ بحكم الحاجة، وبفضل العلم والابتكار على عتبة تحول تاريخي في علاقتها بالولايات المتحدة، إذ باتت تُقدّم لواشنطن تكنولوجيا عسكرية تُعدّ من الأكثر تقدماً في العالم، لا سيما في مجال الطائرات المسيّرة. اتفاق يجري التفاوض حوله منذ الصيف، يتجاوز فكرة المساعدات العسكرية التقليدية، ليؤسس لشراكة استراتيجية جديدة قوامها تبادل التكنولوجيا، والخبرة، والقدرة على التكيّف السريع في ساحة الحرب الحديثة.
وجوهر الصفقة المقترحة يتمثل في مقايضة تكنولوجيا أوكرانية متطورة، بأسلحة أميركية نوعية، بحيث تحصل واشنطن على منظومات درونز ثبتت فعاليتها في الميدان، مقابل حصول كييف على دعم تسليحي، واستثماري يوسّع إنتاجها الدفاعي. هي صفقة «رابح - رابح» كما يصفها زيلينسكي، تعكس نجاح بلاده في تحويل الحرب إلى مختبر ميداني لتجريب وتطوير سلاح المستقبل. وأضافت الكاتبة أن أوكرانيا قد ارتقت بصناعاتها الدفاعية، وأوجدت منظومة متكاملة لإنتاج ملايين الطائرات المسيرة سنوياً، وهو إنجاز لم تصل إليه الولايات المتحدة حتى الآن، ومن أهم أسباب ذلك ما يلي:
أولاً: أثبتت الحرب الحديثة ومنذ بداية هذا القرن أن الطائرات المسيرة هي سلاح المستقبل، ولم تعد للاستطاع فقط، وقد رأينا ذلك في حرب أذربيجان مع أرمينيا، وكيف قلبت الموازين لصالح أذربيجان التي استثمرت في لطائرات المسيرة بمساعدة تركيا، ثم رأينا ذلك في حروب إسرائيل في غزة ولبنان وإيران، واليوم أصبحت الطائرات المسيرة أهم أسلحة أوكرانيا ضد روسيا. وذكرت الكاتبة في مقالها المتميز أنه في السنوات الثلاث الماضية، ارتقت الصناعات الدفاعية الأوكرانية من «مشاريع مرآب»، إلى منظومة متكاملة لإنتاج ثلاثة ملايين ونصف مليون من الطائرات المسيّرة سنوياً، وبمواصفات متطورة تشمل الهجوم والتشويش والمراقبة والاعتراض، والعمل تحت الماء، بينما لا تزال الولايات المتحدة تنتج نحو أربع مئة ألف درون سنوياً، وقد أبهرت تلك الأرقام الجنرال ديفيد بتريوس (رئيس جهاز السي آي إي السابق) الذي وصف وتيرة الابتكار والتصنيع في أوكرانيا أنها مذهلة.
ثانيا: من يرد أن يتفاوض مع الدول المتقدمة عليه أن يكون لديه ما يقايضهم به من منتجات يحتاجونها ويحتاجها العالم. ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتركيز على البحث والتطوير والابتكار. وللأسف لا يحظى هذا النشاط في الدول النامية بما يستحق من جهد ومال وعنصر بشري بسبب الجهل بأهميته، وبسبب البيروقراطية المقيدة لانطلاقته. ولولا الحرب، والحاجة الماسة لهذا السلاح، لما استطاعت أوكرانيا تجاوز هذه العقبات.
ثالثاً: المملكة مهيأة لتصدير التقنية في مجالات تمتلك فيها ميزة نسبية كالطاقة بأنواعها، والبتروكيماويات، وفي مجالات هي بأشد الحاجة إليها كالمياه وتحليتها ومعالجتها. ومكافحة التصحر، ومزارع الأسماك والروبيان في المياه المالحة، والنخيل والتمور وتصنيعها. إضافة إلى الذكاء الاصطناعي، وأمن المعلومات، والطائرات المسيرة للاستخدامات المدنية والعسكرية.
التركيز على الأبحاث والتطوير مكلف، ومتطلباته كثيرة، ونتائجه بطيئة، لكن قيمته تتضاعف بعد سنوات حين تظهر النتائج. وأهم متطلباته وجود العنصر البشري الشغوف والمتمكن، وسهولة التواصل بين مراكز الأبحاث داخل المملكة وخاررجها، وتواصل مباشر مع الجهات المستخدمة للمنتج والمصنعين من القطاع الخاص، بحيث نتجاوز البيروقراطية وما ينتج عنها من ملل وطول انتظار يقتل الحماس ويفوت الفرص، فالعالم في سباق محموم للخروج بمنتجات قابلة للاستخدام المحلي والتصدير.

