لو قيل قبل سنوات إنَّ الكاتب سيضطر يومًا لأن "يرشو" الذكاء الاصطناعي ليقرأ كتابه، لضحك الجميع. الكاتب؟ يدفع؟ كي تُدرَّب آلة على أفكاره؟ لكن مهلاً... من كان يظن أصلًا أن مكتبات الظلّ ستصبح معاملَ سرّية تُصاغ فيها نماذج لغوية ذكية، ومن دون استئذان أحد؟
المفارقة ليست في القرصنة، بل في ملامح المستقبل التي بدأت تتسرّب بهدوء: المؤلف الذي كان يطالب بحصته من الأرباح، قد يجد نفسه قريبًا يفاوض على فتات: فرصةٌ لأن يكون ضمن "التدريب"، لا خارجه. فرصة لأن يقرأه الذكاء الاصطناعي... لا أن يتجاهله!
تقرير نشرته "الأوبزرفر" البريطانية كشف عن تسوية قضائية دفعت فيها شركة "أنثروبيك" 1.5 مليار دولار بعد استخدامها 500 ألف كتاب، دون إذن أصحابها، لتدريب نموذجها الذكي "كلود". من بين هذه الكتب، كما تبين لاحقًا، مؤلفات للكاتب جون نوتون نفسه، كاتب المقال، الذي سارع إلى التحقق عبر أداة وفّرها المحامون.
الشركة أنكرت استخدامها المكتبة فعليًا، وقالت إنها "حملت الكتب فقط" ولم تدرّب النموذج عليها. لكن محكمة القانون لم تبتسم لها، ولا للمبررات الذكية.
مؤلف فخور
لكن ليست كل ردود الفعل غاضبة. كيفن كيلي، أحد مؤسسي مجلة "وايرد" وكاتب غزير الإنتاج، اكتشف أيضًا أن كتبه ضمن قاعدة البيانات المسروقة. غير أنه لم يغضب، بل عبّر عن شعور أقرب إلى الامتنان: "أشعر بالفخر لأن كتبي تُستخدم لتعليم الذكاء الاصطناعي... هذه فرصة لأفكاري كي تصل إلى ملايين".
ثم جاء التصريح الأكثر غرابة: "أعتقد أن الكتّاب فهموا الموضوع خطأ. قريبًا سيضطرون للدفع كي تُدرج كتبهم ضمن محتوى الذكاء الاصطناعي، وإلا فإن كتبهم ستظل مجهولة".
ودّ من ستكسب؟
أهلاً بعالم تسوده النماذج اللغوية العملاقة، فضاء ترتهن فيه قيمة العمل الأدبي أو الفكري بوجوده ضمن خوارزمية التدريب! فإن لم يقرأه الذكاء الاصطناعي، فلن يظهر في الردود، ولن يُستشهد به، ولن يعرفه أحد.
وكأنك، حضرة الكاتب، غير موجود على الإطلاق.
أليست هذه صورة مقلوبة لعصر الطباعة؟ وقتها، سعى الكتّاب ليكونوا على رفوف المكتبات. واليوم، عليهم السعي ليكونوا في ذاكرة نموذج لغوي ضخم تتعدد استخداماته من أبسط المهام ككتابة رسائل بريدية أو إعداد بحث مدرسي وصولاً إلى صناعة المعرفة نفسها: من يَظهر في ردّ الذكاء الاصطناعي هو مَن يُستشهد به، ويُقتبس، ويُعاد إنتاجه. أما من يبقى خارج هذا المدار الرقمي، فمصيره النسيان، حتى وإن كتب أعظم ما يُكتب.
قارئ لا يتثاءب
هناك من يرى أن ما يحصل اليوم هو ببساطة تحديث للمكتبة. النموذج اللغوي العملاق ليس كيانًا ذكيًا بل "تكنولوجيا ثقافية"، كما تصفها الباحثة أليسون غوبنيك. أداة تتيح للبشر الوصول إلى ما أنتجه بشر آخرون من معرفة، تمامًا كما فعلت الطباعة.
في هذا السياق، يصبح تدريب النموذج على الكتاب كأنه وضعه في مكتبة جديدة. مكتبة لا تنام، ولا تتثاءب، وتردّ على كل من يسأل.
لكنَّ الفارق أن المكتبة التقليدية كانت تحترم الغلاف، والعنوان، واسم الكاتب. أما هذه المكتبة الجديدة، فتقرأ ثم تذيب، وتعيد التدوير، دون نسب أو إشارات. ومع الوقت، قد يُمحى اسم الكاتب لصالح "معلومة بلا مصدر".
هل ندفع نحن؟
حتى اللحظة، لا أحد يطلب من الكتّاب دفع المال ليُدرَجوا ضمن النماذج الذكية. لكن، كما يقول كيفن كيلي، ذاك اليوم قد يأتي. عندها، لن يكون السؤال: "هل تُدرّب الخوارزمية على كتابي؟"، بل: "كم يجب أن أدفع لأضمن أنها لا تنساني؟".
لم نعد نكتب للقارئ فقط، بل للروبوت الذي سيردّ على القارئ. وهذا مصدر جديد من القلق بالنسبة إلى المؤلفين: أن يكتبوا... ولا يراهم أحد، لا بشراً ولا ذكاءً.
صحيح أنَّ الخوارزميات تغيّر قواعد اللعبة وأدواتها، ولكن من قال إن هذا أمر سيئ بالضرورة؟
الكاتب الآن أمام فرصة غير مسبوقة: أن لا تُقرأ أفكاره فقط، بل أن تُنسج ضمن وعي رقمي يتحدث إلى العالم بلغات متعددة وفي لحظات خاطفة.
ما كان يحتاج قرونًا لبلوغ القارئ، قد لا يحتاج اليوم سوى سطر يُغذّي نموذجًا لغويًا.
فهل هناك ما هو أكثر إغراءً وإثارة من أن تكون كاتبًا... يُقرأ إلى الأبد؟


