لو أراد العالم أن يعرض مسرحية عن "الإعلام الانتخابي في العراق"، لما احتاج إلى كاتب مسرحي عبقري. كل ما عليه فعله أن يفتح التلفاز في موسم الحملات، ثم ينسخ ما يراه: وجوه مبتسمة حتى آخر تجعيدة، شعارات براقة حتى آخر كذبة، وإعلانات تشبه دعاية الشامبو أكثر مما تشبه خطابًا سياسيًا.
في العراق، يتحوّل الإعلام خلال الانتخابات إلى واجهة دعائية لا تقل بهرجًا عن صور المرشحين على الجدران. يظهر السياسي على الشاشة مزهوًا بوعود خيالية: مشاريع عملاقة، كهرباء لا تنقطع، وظائف بالمجان، وازدهار يبدأ بمجرد فوزه. كل شيء جاهز... عدا الحقيقة.
المذيع يجلس أمامه بهدوء مُصطنع، لا يناقش، لا يُقاطع، فقط يومئ موافقًا كأنه يحاور أسطورة لا يجوز الاقتراب منها. الكلمات تُقال كما تُكتَب في الإعلانات: فضفاضة، مُكررة، بلا روح، بلا مضمون.
وهكذا تنتهي الحلقة كما بدأت: وعود محفوظة، أداء مسرحي، و"خطة شاملة" لا تتجاوز حدود الاستوديو. أما المواطن، فلا يخرج من هذا العرض إلا بشعور مألوف… أن ما يُسوَّق له ليس إلا تكرارًا محسّنًا لخيبة قديمة.
أما القنوات الفضائية، فهي لا تختلف كثيرًا عن البقاليات: كل قناة لها "حزبها المفضل"، تعرض بضاعته، وتخفي عيوبه، وتشتم المنافسين بالجملة. المذيع ليس صحفيًا، بل موظف تسويق، يقرأ ما يطلبه الممول. وحين تنتهي الانتخابات، تختفي القناة فجأة، أو تتحول إلى محطة أغاني، أو تبث مسلسلات تركية مدبلجة، وكأنها تقول: "نحن كنا هنا لموسم التزاوج فقط".
أما على مواقع التواصل الاجتماعي، فالمشهد أكثر إثارة للسخرية. تجد مرشحًا يكتب على فيسبوك: "صوتك أمانة"، بينما هو نفسه خان كل أمانة عرفها في حياته. مرشح آخر يعدك أنه سيجعل منطقتك "سنغافورة الشرق"، بينما هو لا يستطيع إصلاح المجاري أمام بيته. وتجد آلاف الحسابات الوهمية تهاجم أو تمدح حسب الدفع بالدولار أو الدينار. الإعلام الرقمي صار ساحة مصارعة حرة بين جيوش إلكترونية، كل منها يملك خبراء في الشتيمة أكثر مما يملك خبراء في السياسة.
والشعارات الانتخابية نفسها؟ هنا الكوميديا الكبرى:"معًا ضد الفساد" (والمُعلِّق على اللافتة متهم بالفساد).
"اليد بيد نبني الوطن" (لكن اليد الأخرى تسرق الوطن)."صوتك للتغيير" (والتغيير الوحيد هو في موديل السيارة الجديدة للمرشح).
الإعلام الانتخابي عندنا لا ينقل الحقيقة، بل يصنع الوهم. يجعل المواطن يظن أن المرشح سيحوّل الطين إلى ذهب، والخراب إلى فردوس. يبيعك حلمًا لامعًا في إعلانات مصقولة، ثم يختفي الحلم فورًا بعد إعلان النتائج. إنه يشبه إعلان شامبو يقول لك: "شعرك سيصبح مثل الحرير"، بينما الواقع أنك ستبقى أصلع.
لكن السخرية الكبرى تكمن في الجمهور نفسه. المشاهد العراقي يعرف أن كل ما يُقال كذب، ومع ذلك يجلس أمام الشاشة، يتابع بإعجاب، ثم يضحك قائلًا: "خلّي نسمع شراح يگول هالمرّة!" وكأنه يشاهد برنامجًا كوميديًا لا أكثر.
باختصار: الإعلام في الانتخابات العراقية لا يصنع وعيًا، بل يصنع وهمًا جماعيًا. يوزع المخدرات البصرية والسمعية على الناس، حتى يخرج المواطن من موسم الانتخابات مثقلًا بالوعود الوهمية، كما يخرج من حفلة زفاف مثقلًا بالدَين.
إنه ليس إعلامًا… إنه أكبر سيرك مفتوح في الهواء الطلق، يبيعك الوهم بثمن صوتك، ثم يختفي تاركًا خلفه اللافتات الممزقة، والوعود المحروقة، والجمهور يصفق… رغم أنه يعرف أن العرض كله خدعة رخيصة.

