يواجه نظام ولاية الفقيه في إيران لحظة تاريخية فارقة، تتشابك فيها خيوط الهزائم الاستراتيجية في الخارج مع التصدعات الداخلية العميقة، لتُشكّل معًا عاصفةً هوجاء تهدد أسس بقائه التي اهتزت على مدى أكثر من أربعة عقود. إن سقوط بشار الأسد، الذي كان يُعتبر حجر الزاوية في "عمق النظام الاستراتيجي" في المنطقة، لم يكن مجرد خسارة حليف، بل كان زلزالًا جيوسياسيًا كشف عن هشاشة المشروع التوسعي لطهران، وفضح حقيقة أن الإمبراطورية المزعومة لم تكن سوى بيت من ورق.
لقد استثمر النظام الإيراني على مدى سنوات طويلة مليارات الدولارات من ثروات الشعب الإيراني، وأرسل قواته وميليشياته الطائفية لإبقاء دكتاتور دمشق في السلطة، مبررًا ذلك بأنه يقاتل "العدو" في سوريا ولبنان كي لا يضطر لقتاله في شوارع طهران وهمدان. إلا أن هذا المنطق انهار مع هروب الأسد، وتبخرت معه عقود من الاستثمار السياسي والعسكري والاقتصادي. لم تكن سوريا مجرد حليف، بل كانت الرئة التي يتنفس منها النظام لتصدير أزماته وإرهابه، والمنصة التي ينطلق منها لتهديد استقرار المنطقة، والممر الحيوي لإمداد ذراعه الرئيسية، حزب الله في لبنان. إن انهيار هذا "العمق الاستراتيجي" يمثل ضربة قاصمة لمشروع خامنئي، ويضعه في موقع دفاعي هزيل غير مسبوق.
تتزامن هذه الهزيمة المدوية في الخارج مع ضربات موجعة لحقت بحزب الله في لبنان، الذي وجد نفسه معزولًا ومكشوفًا استراتيجيًا بعد فقدان ظهيره السوري. لقد تغيرت قواعد اللعبة في المنطقة، وباتت أذرع النظام التي طالما استخدمها لابتزاز العالم وإشعال الحروب بالوكالة، تعاني من شلل استراتيجي وضعف متزايد. هذا التراجع القهري في النفوذ الإقليمي ليس مجرد نكسة سياسية، بل هو انعكاس مباشر لحالة التآكل والضعف التي يعيشها النظام في مركزه بطهران.
داخليًا، لا يبدو المشهد أقل قتامة. فمع تدهور صحة علي خامنئي ودخوله مرحلة الاحتضار السياسي والبيولوجي، اشتعلت حرب الذئاب على خلافته بشكل علني وشرس. الصراع بين أجنحة النظام لم يعد يُدار خلف الأبواب المغلقة، بل تحول إلى معركة وجودية مفتوحة تُستخدم فيها كل الأسلحة، من فضح ملفات الفساد إلى التخوين المتبادل على المنابر الرسمية. هذا الاقتتال الداخلي المحموم بين مراكز القوى، خصوصًا الحرس الثوري والمؤسسة الدينية التقليدية، لا يكشف فقط عن غياب أي آلية مستقرة لانتقال السلطة، بل يؤدي إلى شلل استراتيجي كامل، ويجعل النظام عاجزًا عن اتخاذ أي قرار حاسم لمواجهة الأزمات المتفاقمة التي تعصف بالبلاد.
على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، وصلت الأوضاع إلى درجة انفجارية. يعاني الشعب الإيراني من انهيار معيشي غير مسبوق، حيث يلتهم التضخم الجامح ما تبقى من قدرته على الصمود، ويدفع بالفقر والبطالة إلى مستويات قياسية. الفساد المستشري وسوء الإدارة ونهب الثروات الوطنية لتمويل المغامرات الإقليمية، كلها عوامل قضت على الطبقة الوسطى ودفعت بملايين الإيرانيين إلى تحت خط الفقر. لم تعد الاحتجاجات تقتصر على فئة أو قطاع معين، بل امتدت لتشمل العمال والمعلمين والمتقاعدين والشباب، وتطورت شعاراتها من المطالب المعيشية إلى هتافات سياسية جريئة تستهدف رأس النظام وتطالب بإسقاطه بالكامل. إن شعار "عدونا هنا، يكذبون ويقولون أميركا" الذي يتردد في شوارع إيران من قبل كافة الشرائح الكادحة والمتضررة في المجتمع، يعبر بوضوح عن وعي شعبي عميق بأن مصدر معاناتهم ليس في الخارج، بل في منظومة ولاية الفقيه القمعية والفاسدة.
في مواجهة هذا الواقع المأزوم، يلجأ النظام إلى أدواته الوحيدة المتبقية: القمع الوحشي والكبت الشامل ضد أي صوت محتج وتصعيد الإعدامات لنشر الرعب، ومحاولة صرف الأنظار عبر إثارة خطاب العداء للخارج. لكن هذه الأساليب لم تعد تجدي نفعًا. فالضربات الاستراتيجية في الخارج، وتفاقم الصراع على الخلافة، والغليان الاجتماعي في الداخل، كلها مؤشرات تؤكد أن نظام ولاية الفقيه يعيش فصوله الأخيرة.
إنها معادلة متكاملة من الانهيار، حيث يغذي الضعف في الخارج التصدعات في الداخل، والعكس صحيح. لقد أصبحت الظروف الموضوعية مهيأة لتغيير جذري، وبات الشعب الإيراني ومقاومته المنظمة أقرب من أي وقت مضى لتحقيق تطلعاتهم في إقامة جمهورية ديمقراطية حرة.


