: آخر تحديث

اعترافات مطبّلٍ متقاعد!

0
0
0

لم أكن أتخيَّل يومًا أن يجيء جيلٌ من المطبّلين يتفوّق علينا في الحرفة التي ظننّا أننا ختمناها وأغلقنا بابها بإحكام. كنّا نرى أنفسنا الأساتذة الأوائل في فنّ التصفيق وتجويد المديح وتلميع الأحذية حتى البريق، فإذا بنا نكتشف أننا لم نكن سوى الهواة الأوائل في زمنٍ بات فيه التطبيل علمًا قائمًا بذاته، له مختبراته الرقمية، وتطبيقاته الذكية، وجيوشه الإلكترونية التي تُنشد المديح الفوري في البثّ المباشر.

نعم، أنا مطبّل متقاعد، يقول أحدهم ويفاخر: لا أخجل من اللقب، بل أذكره بمرارةٍ تشبه الاعتراف أمام المرآة بعد فوات الأوان. كانت مهنتنا يومها تفتح الأبواب الموصدة، وتمنحنا ظلًّا باردًا في صحراء الخوف. كنّا نعيش في “جمهورية التصفيق العظمى”، حيث لا تُقاس الوطنية بالنزاهة أو العمل، بل بدرجة الحماس حين يُذكر اسم “القائد”. لكلّ مناسبةٍ إيقاعها: تصفيقٌ ناعمٌ أمام الكاميرات، وصاخبٌ حين يُذكر الاسم المقدّس، ووقفةٌ مهيبة حين تُرفع الصورة، فالوقوف جزءٌ من الطقس، والطقس عبادةٌ تُقاس بمدى التخشّع لا بالمعنى.

لكن الزمن تغيّر. زال الطاغية، وانهارت الأصنام التي كنّا نطوف حولها طويلًا. قلنا: الآن سينفذ الضوء إلى العقول، وستتكشّف الوجوه كما هي. غير أنّ المفارقة المؤلمة كانت أنّ الظلال أطول من الشمس نفسها. رحل المستبد، لكن التطبيل لم يرحل. تبدّلت الوجوه فقط، وبقيت الأيدي تمارس هوايتها القديمة، تبحث عن كرسيٍّ جديدٍ تُصفّق له، وعن سلطةٍ بديلةٍ تُقدَّس باسمٍ آخر. كان المديح بالأمس للوطن، واليوم للشرع؛ بالأمس “القائد الخالد”، واليوم “الحاكم العادل”. لكن الجوهر واحد: الركوع نفسه، والموسيقى نفسها، وإن تغيّر اللحن.

في سوريا الجديدة، نشأ جيلٌ آخر من المطبّلين، أكثر حيويةً ودهاءً. مطبّلون رقميّون بخبرةٍ تقنية عالية، يعرفون كيف يخلطون الكلمات كما تُخلط البهارات على وجبةٍ بلا طعم، ويجيدون هندسة العبارات لتبدو “موضوعية”، وهي في حقيقتها مراثي مديحٍ متقن. لم يعودوا بحاجةٍ إلى حناجرنا المتعبة ولا إلى مكبّرات الصوت، فالتقنية اليوم تولّد المدائح تلقائيًا: خوارزميات تكتب القصائد، وبرامج تصنع صورًا تُظهر الزعيم الجديد كأنه هالةٌ من نورٍ في لوحة قديس. حتى النفاق صار “ذكيًا”، يُمارس من خلف الشاشات. تغريدةٌ واحدةٌ كفيلةٌ بأن ترفعك إلى مقامٍ رفيعٍ أو تُسقطك في قاعٍ من النسيان.

المفارقة أنّ التطبيل اليوم صار أكثر روحانيةً و“طهراً”. بالأمس كنّا نهتف باسم الوطن، واليوم يُهتف باسم الله والحقّ والعدالة. تغيّر القناع وبقي الوجه ذاته. فالذين تمرّنوا على الانحناء لا يعرفون الوقوف. العقل الذي ألفَ الركوع يخاف من الفضاء المفتوح، لأنه لا يعرفُ كيف يُوازن نفسه دون عصا يتكئ عليها.

يُقال إنَّ الحرية تولّد الوعي، لكن يبدو أنّ التطبيل أسبق من الوعي نفسه. إنه غريزة البقاء لدى من يخشى السقوط، لغةٌ خفيّةٌ من لغات الخوف، ووسيلةٌ للتودّد إلى من يملك العصا والجزرة في آن. المطبّل لا يحب السلطة، بل يخشى غيابها. يحتاج إلى من يُطبل له كما يحتاج الطفل إلى أبٍ يصرخ عليه ليشعر بوجوده. التطبيل بالنسبة له ليس فعلًا سياسيًا، بل طقسًا نفسيًا، يعيد له توازنه في عالمٍ فوضويٍّ لا يطمئن إلا لمن يصدر الأوامر.

أما الجيل الجديد، فقد بنى حول مهنته فلسفةً كاملة. تراهم يتنافسون في المديح كما يتنافس الشعراء في القوافي. بعضهم يكتب قصائد في تمجيد مسؤول بلديةٍ لم يُصلح حفرةً واحدة، وآخرون يقيمون مهرجانات لتكريم من لم يفعل شيئًا سوى الجلوس في الكرسي الصحيح. لم يعد الهدف وظيفةً أو راتبًا، بل مجرّد الحضور في الصورة، ولو في الهامش، لأنّ الظلّ القريب من الضوء يبدو أكثر أهميةً من الضوء ذاته في عيونهم.

وهو، رغم تقاعده، يؤكد: أجدني أحيانًا أحنّ إلى زمننا البطيء، زمن البيانات الرسمية والمذيع الجهوري وفرقة الدبكة الوطنية التي كانت تملأ الشاشات. كنّا نحتاج إلى طقوسٍ كاملةٍ لنقول إننا “شعبٌ يُحب قائده”، أما اليوم، فبضغطة زرٍّ واحدة يتحوّل العالم إلى جوقة تصفيقٍ افتراضي، بلا تعبٍ ولا خجل.

رحلت عهودٌ وبقي الطبل، تغيّر مادّته من خشبٍ إلى إلكترون، ومن قاعةٍ مغلقةٍ إلى شاشةٍ مضيئة. ما زال الإيقاع ذاته يدقّ في الأعماق، وما زال الحلم مؤجلًا: أن نعيش في وطنٍ لا يصفّق فيه أحدٌ لأحد، لأنّ كلّ واحدٍ يؤدي واجبه دون انتظار مكافأةٍ أو تهليل. وطنٍ يُقاس فيه الإنسان بعمله لا بصوته، وبضميره لا بمدى قربه من الكرسي.

حتى ذلك اليوم، سيبقى صوت الطبول أعلى من صوت الحقيقة، وسيظلّ المطبّل ـ مهما تقدّم به العمر وتقاعد ـ يسمع في داخله نداء الطبل القديم، يوقظه كلّما حاول الصمت، كأنَّ السكوت خيانةٌ لتاريخه الشخصيّ الطويل. فبعض العادات لا تموت، بل تتخفّى فينا، تنتظر لحظة السلطة التالية لتعود وتدقّ الإيقاع ذاته، إيقاع الخوف والولاء والفراغ.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.