: آخر تحديث
بين العلم والسياسة:

الهوية الجندرية في الغرب المعاصر

0
1
1

تتّسع في الغرب دوائر النقاش حول الهوية الجندرية إلى حدٍّ تجاوز الإطار العلمي والحقوقي، لتتحول أحيانًا إلى ساحة صراعٍ أيديولوجي وسياسي. بين الحرية الفردية وضرورات الاستقرار الاجتماعي، يقف الإنسان الغربي المعاصر أمام سؤالٍ وجودي: إلى أي مدى يمكنه إعادة تعريف ذاته من دون أن يمسّ التوازن الذي تقوم عليه الحياة واستمرار الحضارة؟

منذ فجر التاريخ، شكّلت العلاقة بين الرجل والمرأة حجر الزاوية في استمرار البشرية. فهي شراكة لا تقوم على التلاقي الجسدي فحسب، بل على التكامل العاطفي والاجتماعي الذي يُثمر أسرةً تحفظ النوع وتؤمّن تواصل الأجيال. هذا النموذج ببساطته وبداهته ليس خيارًا ثقافيًا عابرًا، بل أساسًا طبيعيًا واجتماعيًا لا غنى للبشر عنه.

النقاشات المعاصرة حول قضايا الهوية الجندرية ذهبت في العقود الأخيرة بعيدًا عن الموضوعية، حتى بدا النموذج الأسري الطبيعي وكأنه مجرد «خيار تقليدي». ومع أن المجتمعات قادرة على تغيير مظاهرها وأنظمتها، فإنها لا تستطيع الاستغناء عن هذا النموذج ليستمر وجودها. فإذا تلاشى، وجد الإنسان نفسه في مجتمعٍ يفتقد إلى مقوّمات التجدد والإنتاج.

التأكيد على أهمية هذا النموذج لا يعني نفيَ حق الأفراد في اختياراتهم الخاصة. فالمجتمع المدني في الغرب يقوم على احترام التنوع، غير أن هذا الاحترام لا ينبغي أن يصل إلى حدّ إنكار الأساس الذي يقوم عليه بقاء الإنسان، أو إلى فرض بدائل جديدة بوصفها النموذج الأوحد للحياة.

حين خضعت هذه القضايا للحسابات السياسية، ساد منطق الصراع. فالنقاش الذي كان يُفترض أن يبقى علميًا وحقوقيًا تحوّل إلى ساحةٍ للضغط والمزايدات، وتصاعدت لغة الاتهام والتخوين، فتراجعت الأصوات المعتدلة وغابت الرؤية العلمية المتزنة. ومع الوقت، أصبح هذا الملف أداةً لتجييش الرأي العام بدل أن يكون مجالًا للفهم والمعالجة.

لقد أضفى نفوذ بعض دوائر المال والسياسة في الغرب، التي تتبنّى شعار دعم حقوق المثليين والمتحولين، على هذه القضايا حضورًا يفوق نطاقها العلمي والاجتماعي، وأخضع كثيرًا من الدراسات والبرامج الأكاديمية لتأثير التمويل والمصالح. وهكذا غدا موضوعًا يُفترض أن يُدرس بوسائل العلم الخالص، أسيرًا للاعتبارات الأيديولوجية، ما أعاق الوصول إلى نتائج محايدة تحدد ما إذا كانت هذه الظواهر تستدعي تدخلًا طبيًا أم لا.

تشير أبحاث عالمة الأعصاب آي-مين باو (Ai-Min Bao) وزملائها في جامعة تشيجيانغ – بالتعاون مع الباحث الهولندي ديك سواف – إلى أن الهوية الجندرية ليست تصورًا اجتماعيًا محضًا، بل ظاهرة معقّدة تتداخل فيها عوامل عصبية وهرمونية ونفسية. وتُظهر دراساتهم أن بنية الدماغ والهرمونات الجنينية تؤثر في تكوين الهوية الجندرية، مع بقاء الفروق البيولوجية بين الجنسين قاعدةً ثابتة لا تتغيّر. وتؤكد أن تجاهل هذا التعقيد لصالح الشعارات الأيديولوجية يضعف الفهم العلمي ويعيق وضع حلول واقعية متوازنة.

تتعاظم الأزمة أكثر حين تُزجّ هذه المفاهيم في المناهج التعليمية الموجّهة للأطفال والمراهقين. فمن منظور تربوي واجتماعي، ينبغي أن يتأسس وعي الفرد في مراحله الأولى على ثنائية الجنس بوصفها قاعدة بيولوجية لبناء الأسرة واستمرار النوع. أما الخيارات الفردية المختلفة، فيُفترض أن تبقى شأنًا يُناقش في مرحلة الرشد، حين تتبلور الهوية ويكتمل الوعي بالقرار. إدخال هذه القضايا في التعليم المبكر يربك التكوين النفسي ويقوّض أحد أسس الاستقرار الاجتماعي، فالتوازن بين الحرية الفردية والنسق الجمعي ضرورة لحفظ التعاون واستمرار الحياة.

وفي بعض الدول والولايات الغربية، تحوّل مبدأ «الحق في الاختيار» إلى مظلّةٍ قانونية تتيح للقاصر اتخاذ قراراتٍ جسديةٍ دائمة الأثر وهو لم يكتمل وعيه بعد. فباسم الحرية الفردية، يُسمح له في بعض الولايات ببدء العلاج الهرموني حتى مع اعتراض والديه، بدعوى أنّ المصلحة النفسية تُقدَّر بمعزلٍ عن الأسرة. وهكذا يجد الطفل نفسه محاطًا بمؤسساتٍ تمنحه سلطة القرار وتقصي والديه عن دورهما الطبيعي في التوجيه والرعاية، فينشأ الخلل الأخلاقي الذي يجعل القانون شريكًا في مأساته. وحين يبلغ هذا الطفل سنّ النضج ويبدأ في مراجعة اختياراته، يكتشف أنّ حريته المبكرة كانت فخًّا، وأنّ الجسد لا يمنح فرصةً ثانية لمن خُدع وغرر بالتحرّر من ذاته قبل أن يعرفها حقًّا.

ومن المهم التمييز بين من يختار أن يعيش خارج مؤسسة الزواج والإنجاب دون أن يحمّل المجتمع تبعات خياره، وبين من يسعى إلى تسييس هذا الخيار وفرضه على الآخرين بوصفه معيارًا جديدًا للهوية أو للتقدم.

في النهاية، يظلّ جوهر الحياة في الشراكة الإنسانية بين الرجل والمرأة، علاقةٌ تُنتج أسرةً وتصون استمرار النوع البشري. وإدراك هذه الحقيقة يستدعي دعم الأسرة كخيارٍ أول يضمن الاستقرار الإنساني، واحترام الخيارات الأخرى كاستثناءٍ فرديٍّ لا يُعمَّم، مع ضرورة فصل العلم عن السياسة والتمويل ليبقى البحث حرًّا ومحايدًا.

وليس كلّ تراجعٍ في الإنجاب سببه تفشّي ثقافة الجندر أو المثلية، لكن كلّ خطابٍ يُضعف فكرة الأسرة ويفصل الحرية عن المسؤولية، يشارك – بطريقةٍ أو بأخرى – في إضعاف دافع استمرار الأجيال.

لقد كان النضال من أجل الحرية في الماضي جسرًا إلى حياةٍ أفضَل: تعلّمٍ، وحبٍّ، وإبداعٍ، ومساهمةٍ في بناء الحضارة البشرية؛ أمّا اليوم، فقد تحوّل هذا النضال الموجَّه إلى مسارٍ يُفضي إلى تقويض استمرارية الشعوب وانحسار حضورها الإنساني.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.