قبل أن يفوت الأوان — وقبل أن تكتب لنا الآلات نسختنا الأخيرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان — لعلنا نحتاج اليوم أن نحدّث نصّ 1948، ذاك النص الورقي الجميل الذي كُتب بالحبر الإنساني، لا بالكود الثنائي.
لقد خرجت البشرية خلال القرن العشرين من مجزرتين عالميتين، تسعون مليونًا من الجثث وُزعت بالتساوي على خريطة الكوكب، وكان العالم يريد “سلامًا”. فاجتمع الحكماء في باريس عام 1948 وصاغوا وثيقة تعلن أن الإنسان إنسان.
واليوم، بعد سبعة وسبعين عامًا من تلك القصيدة المثالية، اكتشفنا أننا بحاجة إلى وثيقة أخرى: إعلان عالمي لحقوق الإنسان في الزمن الرقمي، ذاك الكائن الذي يعيش بين الألياف البصرية ويُدار من خوادم لا تعرف النوم.
فثمة خطر جديد يزحف بهدوء لا تملكه المدافع: الثورة الصناعية الرابعة، أو ما يُسمّيه البعض — بدقّة لا تخلو من الفزع — “التحوّل الكبير”. وكما قيل يومًا: هذه ليست حقبة تغيير، بل تغيير الحقبة نفسها.
لقد أصبحت الحياة مصنعًا متصلاً بالواي فاي: آلاتٌ تتحدث مع آلات، خوارزميات تراقب خوارزميات، والإنسان بينهم يكتفي بدور “مستخدم”. الروبوتات، الذكاء الاصطناعي، البلوك تشين، البيانات الضخمة، إنترنت الأشياء، وحتى الطابعات الثلاثية الأبعاد التي تطبع أعضاءنا الداخلية كما تطبع المجلات.
صارت البيانات هي النفط الجديد، ولكن للأسف لم نعد نحن من يملكه. صندوق النقد الدولي يتنبأ بضياع خمسة ملايين وظيفة قبل أن نُنهي قهوتنا الصباحية، لكنها — لحسن الحظ أو سخريته — ستُستبدل بمليوني وظيفة في مجالات لا يفهمها أحد. الهندسة، البرمجة، الخيال العلمي التطبيقي… أسماء براقة تخفي حقيقة واحدة: أن من يفقد عمله لن يكون مؤهلاً ليحصل على العمل الجديد.
إنها معادلة تطورية باردة: من لا يتحدث لغة الآلة، سيُلغى مثل ملف غير صالح للتحميل.
فإذا كانت مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من 18 إلى 21 تتحدث عن حرية الفكر والمعتقد والضمير، فإنها اليوم تبدو مثل مخطوطة رومانسية في متحف تقني.
فما فعله إدوارد سنودن في 2013 لم يكن سوى كشف بسيط: أن الخصوصية ماتت رسميًا على يد وكالة الأمن القومي الأميركية، وأن الحكومات تعرف عنك أكثر مما تعرفه أنت عن نفسك.
ثم جاءت كامبريدج أناليتيكا عام 2018 لتضيف لمسة درامية: ليست الحكومات فقط من تتجسس، بل أيضًا الشركات التي تبيع “حياتك الرقمية” مقابل بضعة إعلانات مستهدفة.
فيسبوك يعرف من تحب ومتى تشك، وجوجل يعرف ما تخاف منه، وأمازون يعرف متى تنوي إنجاب طفل. وهكذا صار النفط الجديد — كما يقول الاقتصاديون — هو المعلومات، لكن الفرق أن آبارها هي عقولنا نحن.
نحن لا نتحدث فقط عن آلاتٍ تعمل بدلنا، بل عن آلاتٍ تُعيد تصميمنا. في مختبرات المستقبل، يُجرى تعديل على “الإنسان” نفسه كما يُحدّث تطبيقًا على الهاتف. يُسمّونها البيولوجيا التركيبية أو الهندسة الجينية أو — لمن يحب الدقة الفلسفية — “التحول ما بعد الإنساني”.
لم يعد الهدف إطالة العمر فحسب، بل تصميم نسخة “أفضل” من الإنسان. نسخة أسرع، أذكى، وأقل ميلاً إلى الاعتراض.
ولذلك حذّر إيلون ماسك بنفسه من الذكاء الاصطناعي، قائلًا إن على البشرية أن تنظّم هذا الوحش قبل أن تكتشف أنه هو من ينظّمها. أما ستيفن هوكينغ، فقد قالها بتعبيره الإلكتروني الهادئ القاتل: “الذكاء الاصطناعي قد يكون آخر اختراع للبشرية.”
وها نحن أمام نبوءة جديدة: في غضون مئة وعشرين عامًا، كما تقول الباحثة كاتيا غريس من جامعة أوكسفورد، ستنجز الآلات كل عمل كان يقوم به الإنسان. سيبقى البشر، ربما، لمهام غير ضرورية مثل “الإحساس بالحنين”.
تقنية كريسبر (CRISPR)، تلك المقصوصة الجينية التي تتيح تعديل الحمض النووي كمن يحرر نصًا على “وورد”، تُبشر بعصرٍ يمكن فيه حذف العيوب من الأجنة كما نحذف الأخطاء الإملائية.
لكن أي مساواة ستبقى بعد ذلك؟
سيظهر جيل من “المحسّنين جينيًا”، بشعرٍ مثالي وذكاءٍ مصنّع، بينما يظل الباقون في فئة “البشر الافتراضيين”.
نحن على وشك أن نخترع طبقة جديدة من “البشر ناقصي التحديث”.
لقد حاولت بعض الجامعات — مثل جامعة ديّوستو الإسبانية — أن تكتب مسودةً حديثة: إعلان حقوق الإنسان في البيئات الرقمية (2018)، يتضمن بنودًا لم تكن تخطر على بال فلاسفة الأربعينات:
الحق في النسيان الإلكتروني، الحق في قطع الاتصال بالإنترنت، الحق في “التركة الرقمية”، الحق في الحماية من الخوارزميات، حماية السلامة الشخصية في مواجهة التكنولوجيا، وحرية التعبير على الشبكة، والهوية الشخصية الرقمية، والخصوصية في البيئات التكنولوجية، والشفافية والمسؤولية في استخدام الخوارزميات، تكافؤ الفرص في الاقتصاد الرقمي، ضمانات المستهلك في التجارة الرقمية، عدالة الشبكة وأمنها. والحق في أن يكون القرار الأخير — مهما بلغت عبقرية النظام الخبير — بيد إنسان. باختصار، نحن بحاجة إلى أنسنة التكنولوجيا قبل أن تُرقمن إنسانيتنا.
لقد فتحت الثورة الرقمية أبوابًا مذهلة للمعرفة والشفاء والاتصال، لكنها أيضًا فتحت نوافذ واسعة للتسلط، والتجسس، وإعادة تعريف معنى “الإنسان”. إن لم نُحدّث إعلان 1948، فستكتبه الخوارزميات نيابةً عنا — وربما تمسح فقرة “الكرامة الإنسانية” لأنها لا تتوافق مع سياسة الخصوصية الجديدة.
في النهاية، يبدو أننا نحتاج إلى ثورة في الضمير الرقمي لا تقل شأنًا عن الثورة الصناعية الرابعة نفسها. فبينما تتقدّم الآلات في الذكاء، ربما يكون التحدي الأكبر هو أن نمنع الإنسان من التراجع في الإنسانية.


