: آخر تحديث

على مقهى البربخ

2
1
1

كنت جالساً على مقهى تُسمى "الإصلاح" أو "البربخ قديماً"، في قريتي الصغيرة، التي يروي الزمان حكاياته على جدرانها القديمة، حين هبطت عليّ فكرة كأنها نداء من داخل أعماقي، سؤال يشبه ارتطام الهواء بنوافذ الروح:
هل ما نعرفه عن هذا العالم حقيقي؟ أم أن الحقيقة تنظر إلينا من وراء ستار خادع من الظن والوهم واللغة؟

نظرتُ في الوجوه من حولي: رجل عجوز يقرأ الجريدة كأنها ملاذه الأخير، وشاب يعيد ترتيب مقطع فيديو عشرات المرات لينشره، وعامل المقهى ينظر إليهم بصمت فيه حكمة الانتظار.
قلت في نفسي: الكل يعرف العالم على طريقته، ولكن أيُّهم يعرفه كما هو؟

حينها بدأت أستدعي طيف الفلاسفة من مخزون ذاكرتي، كأنهم يخرجون من الكتب ويتخذون المقاعد من حولي، وكلٌّ منهم يحمل مصباحه الخاص ويضيء لي زاوية من هذا السؤال الغامض.
كان أولهم أفلاطون، يحمل تحت كتفه جريدة "الجمهورية" ويهمس في أذني كأنه يستعيد حلماً قديماً:
"العالم الذي تراه ليس حقيقياً يا صديقي، هو مجرد ظل. المعرفة الحقيقية ليست فيما تراه أو تسمعه، بل فيما يتجاوز ذلك، تلك الحقائق الخالدة التي لا تتغير، والتي تسكن في عالمٍ علوي بعيد عن الوهم والفساد".

تخيلته يُمسك بيدي ويسحبني من هذا المقهى، من صوت الزحام، من عبث الحياة اليومية، ويقودني نحو عالم نقيّ لا يشوبه الخطأ.
رأيت الحقيقة في عينيه مطلقة، لا تقبل التأويل. شعرت براحة كبيرة، لكنها أيضاً تخيفني، لأن كل ما أحببته في هذا العالم، عند أفلاطون، مجرد نسخة ناقصة.

ثم اقترب ديكارت، بعينين تائهتين ويدين ترتجفان من فرط التفكير، قال لي بصوت خارج من قاع التأمل:
"يا صديقي، لا تثق في شيء إلا بعد أن تشك فيه، لا تثق حتى في جسدك، فالحواس تخدع، والعالم مليء بالأوهام، لكن إن استطعت أن تفكر فأنت موجود، ومن هذا الفكر تبدأ كل معرفة".

نظرت إليه مذهولاً: هل أبدأ رحلتي نحو الحقيقة من داخل نفسي؟ أليس هذا انغلاقاً؟
لكنه أصر:
"العقل هو السور الذي نحتمي به من فوضى الحواس".

كانت المعرفة عند ديكارت كحصنٍ حجري، منيع، منطقي، لكنه يتركك وحيداً في قمته، تراقب العالم من نوافذ الشك.

ومن طرف الزاوية، دخل ديفيد هيوم متثاقلاً، كمن يعرف أن لا شيء يستحق اليقين الكامل.
نظر إليّ وقال:
"لا تصدقهم، لا العقل، ولا الحواس، كل ما نملكه هو العادة. حين ترى الشمس تشرق كل صباح، فأنت لا تعرف أنها ستشرق غداً، أنت فقط تعودت على ذلك".
همست لعقلي:
"أيعقل أن تكون كل معرفتي مجرد عادة؟ كإدمان ليس وعياً مني؟"
أجاب:
"العقل لا ينتج اليقين، لكنه يعيد ترتيب الظن".
ورحل كما جاء، تاركاً وراءه شكّاً يشبه الظلام.

ثم جاء فيتغنشتاين، كظل يتسلل من كتاب، وقال بهدوء عميق:
"حدود لغتي هي حدود عالمي. ما لا تستطيع قوله، لا تستطيع معرفته".
أجبته:
"لكن هناك ما نشعر به ولا نستطيع التعبير عنه".
قال:
"ذلك ما لا يمكن معرفته، ربما يمكن الشعور به، وليس معرفته".

فكرت في الحب، في الموت، في تلك اللحظات التي يعجز فيها اللسان.
هل كل ما لا يمكنني التعبير عنه غير موجود فلسفياً؟
كان فيتغنشتاين قد انصرف، وتركني وحدي مع صمت وسكون خانق.

ثم وقف هوسرل ليدفع حساب قهوته، وقبل أن يخرج في هدوء، قال:
"دعك من كل هذا، لا تذهب إلى الميتافيزيقا، ولا إلى الشك، ولا إلى المجاز. فقط عد إلى الأشياء كما تظهر لك".
نظرت إليه وقلت:
"وهل يمكنني أن أثق في ظهور الأشياء؟"
قال:
"إذا وصفت تجربتك بدقة، وعلقتها عن الأحكام المسبقة، فأنت تقترب من الحقيقة".

كان يريدني أن أنظر إلى فنجان القهوة لا كرمز ولا كمادة، كـ"تجربة" لحظة بلحظة.
وأنا فعلت… للحظة.

ثم دوى صوت من الخلف، وكان فوكو قد دخل، كمن اعتاد المقاهي أكثر من الزنازين.
قال:
"كل ما سبق حديث جميل، لكن المعرفة لا تُنتج في فراغ، تُنتج في قلب السلطة. كل مجتمع يخلق حقائقه بما يخدم القوى التي تسيّره. أن تنطق بالحقيقة، يعني أن تتكلم بلسان السلطة، حتى لو لم تدرِ".
قلت:
"لكن أليست هناك علوم ومعارف تنقض السلطة؟"
قال:
"حتى ذلك جزء من اللعبة، العلم نفسه يخضع لتمويل، ولسوق، ولمراكز قوة".
كانت عيناه تلمعان بنارٍ لا تنطفئ.

وأخيراً، جاء بوبر يحمل دفترًا مليئًا بالحذف والتعديل، وقال بلطف المفكرين الصادقين:
"ليست هناك حقيقة نهائية، هي فرضيات قابلة للاختبار. العلم لا يثبت، بل يجرّب، ويصحح، وينتقد. الموضوعية ليست في امتلاك الحقيقة، لكنها في القدرة على الاعتراف بالخطأ".

نظرت إلى الجميع، إلى أفلاطون، وديكارت، وهيوم، وفوكو…
وقلت في نفسي:
"ربما المعرفة مثل المدينة، لا تدخلها من باب واحد، بل من أزقة عديدة، متعرجة، متناقضة، بعضها مضيء وبعضها غامض".

ها أنا أعود إلى طاولتي في المقهى.
أوراقي مبعثرة، وفنجان القهوة قد برد، والقرية بدأت تصحو على أصوات الخبز والعمال.
لكن في داخلي شيء تغيّر.
لم أعد أسأل: ما هي الحقيقة؟
بل: من قالها؟ ولماذا؟ وكيف؟
أصبحت أكثر شكّاً وأكثر تواضعاً.

فالمعرفة أصبحت لي نهراً أريد أن أعبره، وقد أغرق أو أصل.
وفي كلتا الحالتين، أكون قد عرفت شيئاً:
أن المعرفة ما يملكني لحظة الشك، لحظة التأمل، لحظة أن أضع القلم على الورق وأسأل.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.