يُعدّ كلٌّ من جوزيف ستالين وصدام حسين من أبرز النماذج التي جسّدت فكرة «الحاكم المطلق» في القرن العشرين، بالرغم من اختلاف البيئة والسياق التاريخي لكلٍّ منهما. فستالين صعد من رحم الثورة البلشفية إلى قيادة الاتحاد السوفييتي بقبضة فولاذية، بينما صعد صدام من بيئة حزبية قومية في العراق إلى زعامة جمعت بين الكاريزما والخوف، بين الشعارات الاشتراكية والسلطة الفردية المطلقة. ومع أنّ المسافة الجغرافية والسياسية بين موسكو وبغداد شاسعة، إلا أن المسار النفسي والسياسي لكليهما يكاد يكون مرآة تعكس وجهاً واحداً للاستبداد.
منذ بداياته، أظهر صدام حسين إعجاباً واضحاً بستالين، ليس فقط كزعيم قوي بل كنموذج لبناء دولةٍ تهيمن عليها الإرادة الفردية. فقد درس صدام تاريخ ستالين عن قرب، ورأى فيه تجسيد الحاكم الذي يُخضع الحزب والدولة والشعب لصوته، ويعيد صياغة التاريخ وفق رؤيته الخاصة. لم يكن التشبه سطحياً، بل امتدّ إلى تفاصيل المظهر والسلوك اليومي، بدءاً من التحية العسكرية التي تظهر الهيبة، إلى القيافة الرسمية التي تجمع بين البساطة المقصودة والهيمنة الرمزية، وصولاً إلى مشيته الواثقة التي تحمل مزيجاً من الغطرسة والسيطرة. هذه العلامات الجسدية كانت جزءاً من "لغة السلطة" التي تصنع الخوف قبل أن تُمارسه.
التشابه لم يقتصر على المظاهر، بل شمل الجوهر النفسي الذي حكم سلوك كلٍّ منهما. عاش ستالين في عزلة خانقة داخل أسوار الكرملين، محاطاً بمواليه الذين يخشونه أكثر مما يحبونه، وهي سمة تكررت في قصور صدام. بعد سنوات من حكمه، صار صدام يثق فقط بحلقة ضيقة من المقربين من عشيرته، ويأمر بإعدام أو إقصاء أي مسؤول يشك في ولائه. وكما نفّذ ستالين "التطهير العظيم" الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من العسكريين والحزبيين، نفّذ صدام حملات إعدامات داخلية ضد ضباط الجيش ومسؤولي حزب البعث بحجة "الخيانة". كلاهما أدار نظاماً يقوم على الشك والخوف، حتى صار الولاء لا يُقاس بالكفاءة بل بمدى الخضوع المطلق.
الزعيمان كانا يعانيان من خوف مرضي من الاغتيال. ستالين لم يكن يتناول طعامه إلا بعد اختباره من قبل طهاة موثوقين، وصدام كان يفعل الشيء نفسه، بل كان يغيّر مكان نومه باستمرار تحسّباً لأي محاولة اغتيال. هذه الهواجس الأمنية كانت انعكاساً لطبيعة الحكم الشمولي الذي يصنع الأعداء كما يصنع الأتباع، ويزرع الخوف حتى في دوائر القربى.
على صعيد الفكر السياسي، رفع الزعيمان شعار الاشتراكية، لكن الفارق في التطبيق كان واضحاً. ستالين بنى نموذجاً اقتصادياً صارماً يعتمد على التخطيط المركزي والتصنيع الثقيل، بينما حول صدام "الاشتراكية البعثية" إلى شعار تعبوي يبرّر السيطرة المطلقة دون مضمون اقتصادي حقيقي. استطاع ستالين تحويل الاتحاد السوفييتي إلى قوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، بينما دخل صدام في حروب خارجية استنزفت ثروات البلاد وأهلكت الاقتصاد، بدءاً بالحرب العراقية–الإيرانية وصولاً إلى غزو الكويت عام 1990، الذي أدى إلى عزلة دولية وحصار دمّر البنية التحتية.
الآلة الإعلامية كانت أداة رئيسية في صناعة الأسطورة لدى كلٍّ منهما. في موسكو، تحوّل ستالين إلى "الأب العظيم" عبر صور وتماثيل لا تُحصى، وفي بغداد تحوّل صدام إلى رمز أسطوري تُرفع صوره في كل شارع ومدرسة ومؤسسة. كلا النظامين استخدم الدعاية لبناء عبادة الفرد، وتضخيم صورة الزعيم بوصفه المنقذ والمخلّص من الأعداء الداخليين والخارجيين.
أما إدارة الحكم، فكانت متشابهة بشكل واضح. الحزب عند ستالين لم يكن مؤسسة ديمقراطية بل أداة لإعادة إنتاج السلطة، وكذلك في العراق حيث تحول حزب البعث إلى ذراع أمني يخدم الزعيم لا الدولة. كلا النظامين دمج بين الدولة والحزب والزعيم في كيان واحد، بحيث يصبح الاعتراض على الحاكم خيانة للوطن نفسه.
مسار الوصول إلى الحكم كان أيضاً متقارباً. ستالين تخلّص من منافسيه تدريجياً عبر الترويكا والمكائد السياسية، فيما تخلّص صدام من معارضيه خلال فترة حكم أحمد حسن البكر، مستبداً بقوة الحزب والشخصية الفردية. لقد أثبت كلٌّ منهما أن السيطرة على الحكم تحتاج إلى مزيج من المكر والخداع، والقدرة على بث الخوف بين الخصوم والأتباع على حد سواء.
فيما يتعلق بالشخصية، فقد كان لكلٍّ منهما طابع دكتاتوري عنيف، غير ملتزم بأي مبدأ إلا بقاء السلطة الفردية. ووضع البلد في عهد كلٍّ منهما كان انعكاساً مباشراً لطبيعة حكمهما: غياب مؤسسات الدولة المستقلة، انتشار أجهزة الشرطة السرية، سيطرة الحزب الواحد، وإلغاء أي مساحة للحياة السياسية المستقلة.
النهاية كانت أكثر المفارقات مأساوية. ستالين مات على سريره عام 1953، محاطاً بهالة من الخوف والصمت، ودُفن كبطل قومي بالرغم من سجله الدموي. أما صدام، فقد انتهى وحيداً قرب تكريت بعد الغزو الأميركي، وسقطت تماثيله وصوره من كل الساحات، لتكون نهاية مستحقة لنظام بنى كل شيء على الخوف والهيمنة الفردية.
ولعل المقارنة بين ستالين وصدام لا تكشف فقط تماثل الطغيان، بل تؤكد أن الاستبداد مهما بدا متماسكاً يحمل في داخله بذور فنائه. النظام المبني على الخوف لا يمكن أن ينجو حين يتصدع الولاء أو تتغير موازين القوى الدولية. وبين موسكو التي خرجت من الحرب بطموح توسعي، وبغداد التي خرجت منهكة ومقسمة، تتجلّى المفارقة الكبرى: الزعيمان تشابها في القسوة، لكن القدر منح نهاية مختلفة لكلٍّ منهما.
وأخيراً، يمثل ستالين وصدام وجهين لعملة واحدة من الدكتاتورية، وجه يمجّد القوة ويزرع الخوف، ووجه يذكرنا بأن السلطة المطلقة مهما بلغت ستنتهي عاجلاً أم آجلاً.


