لم تكن تلك الليلة كسائر الليالي ...
في عالم الأحلام، حيث تذوب الحدود بين الزمان والمكان، زارتني من غابت عن دنياي منذ تسعةٍ وعشرين عامًا، زوجتي التي لم تغب يومًا عن قلبي، ولا عن ذاكرتي، ولا عن حلمي.
ها أنا أروي الحلم كما رأيته، بكل تفاصيله التي لا تزال دافئة في وجداني.
كنت نائمًا على سريري، مستلقيًا على ظهري، وقد سحبت الغطاء لأغطي رأسي كليًا، كما يفعل الطفل حين يبحث عن الأمان في دفء لحافه. في تلك العزلة الحالمة، رأيتها مقبلة نحوي، تحمل "جردلًا" وأدوات تنظيف، وتتجه إلى سيارتنا القديمة. بدأت تنظفها من الداخل بصمتٍ مطمئن، فقمتُ دون تردد لأشاركها العمل، أنظفها من الخارج. لم نتحدث، لكن بيننا كان حوار الأرواح.
وحين فرغنا، عدت إلى مكاني الأول، ورأسي ما زال تحت الغطاء. عندها تسلّل إليَّ ضحكٌ داخليّ صامت، ينبع من عمق الطمأنينة. اقتربتْ مني، وانحنت، وقبّلت رأسي دون أن تُزيح الغطاء. لم يكن هناك صوت، فقط دفءٌ يشبه اللقاء الأول، وضحكةٌ مشتركة تشبه لحظة الصفاء الأخيرة.
استيقظتُ بعدها دون حزنٍ أو دموع، بل بشعورٍ خفيفٍ يشبه السكينة، وكأنها أتت خصيصًا لترسل لي رسالة تقول شيئًا واحدًا:
"أنا هنا... لم أرحل تمامًا."
رسالة من عالم النور
حين تأملت الحلم، بدا لي كما لو كان تواصلاً روحانيًا يطمئن القلب بعد طول صمت.
في كتب تفسير الأحلام المعتبرة، كابن سيرين والنابلسي وابن شاهين، تُعد رؤية الميت في هيئة طيبة أو في فعلٍ من أفعال النظافة والبِشر من الرؤى الصالحة، فهي رمزٌ للسكينة والرضا.
غضبي في بداية الحلم ليس غضبًا حقيقيًا، بل هو عتاب الشوق الطويل، وتنظيفها للسيارة القديمة يرمز إلى تطهير الذكريات وتجديدها بالحب. أما قيامي بمساعدتها من الخارج فهو إشارة إلى الوفاء المستمر واستعدادي لتلقي رسالتها بالرضا والطمأنينة.
ثم تأتي قبلة الرأس من تحت الغطاء — وهي ذروة الرؤيا ومعناها الأعمق — إذ ترمز في تأويل العلماء إلى رضا الميت عن الحيّ، ووصول دعائه وسلامه إليه.
إنها قبلة تخترق حُجب الغياب، تقول دون كلام:
"حبّي ما زال يصل إليك، يتجاوز الحزن والسنين، ويبارك حياتك بالسكينة."
آية تجمع القلوب
بعد هذا الحلم، لا أملك إلا أن أتذكر قول الله تعالى في محكم تنزيله:
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة الحشر: الآية 10].
فيها تتجلّى حقيقة الحبّ بعد الفقد: دعاءٌ بالرحمة والمغفرة، وذكرى صافية لا يشوبها حقد ولا لوعة. الحمد لله الذي أبقى في القلب هذا الوفاء الطاهر، وجعل من الأحلام بريدًا روحيًا يحمل رسائل من عالم الرحمة، تذكرني أن الموت ليس نهاية الحب.
حين تتعانق الأرواح
لطالما آمنت بأن للأرواح لقاءاتها الخاصة. وجاء هذا الحلم ليكون برهانًا على أن حبًّا اختُتم بآية الرحمة، لا يطيقه الفناء. هو نعمة إلهية ورسالة محبة من عالم الأسرار، تذكرنا أن فراق الأجساد ليس فراقًا للأرواح، وأن بعض القلوب تظل تتنفس رغم بعد الديار، وتلتقي رغم حجب الغياب.
فالحمد لله على نعمة الوفاء، والحمد لله على نعمة اللقاء، ولو كان في عالم الأحلام.

