: آخر تحديث

المطهّر الملوّث: غُسل السلطة بالدم

1
2
1

لم تعد المسألة في سوريا أو حولها تتعلق بتبدّل وجوهٍ أو تبديل شعاراتٍ، بل بتبدّل معنى الطهارة ذاتها. إذ صار "الرضى الخارجي" نوعاً من الغُسل السياسي، يُعيد إلى المسرح كل من تلطّخ بالدم، شرط أن يكون الماء الذي يُغسل به من "حنفيات" واشنطن أو موسكو. هكذا يُولد "المطهّر الملوّث": غسيل بيدٍ غارقة في الدماء، ومسحٌ بخرقةٍ غُرست في الوحل، وتزكية أكف تتقطر منها دماء الأبرياء!

فقد تبنّت روسيا مجرمها المدلّل، بشار الأسد، من جهةٍ، وغسلته على مرأى العالم من كل رجسٍ وجريرةٍ، بتحويله إلى مجرد رجل أعمال أو آمال، لا يملك إلا أموالاً من عرق جبينه. إذ لم ترَ فيه قاتلاً ولا طاغيةً، بل حليفاً استراتيجياً. وفي المقابل، ها هي أميركا تمدّ يدها إلى السلطة المؤقتة، وإلى من يدور في فلكها، لتمنحهم شهادة حسن سلوكٍ دولي، كأن القتل يُغفر بمجرد أن تبتسم السفارات. كلا القطبين إذن يمارس التطهير ذاته، يبرّئ القاتل لا باسم العدالة، بل باسم المصلحة، ويُعيد تأهيل الجريمة بشرط أن تواصل خدمة التوازن العالمي.

أميركا وروسيا لا تختلفان في الجوهر، فهدف كلٍّ منهما مصلحته، لا تهمّ الأداة، سواء أكانت مجرماً أم ملاكاً. ما يهم هو أن تُنفَّذ الإرادة، وأن تبقى الأيدي الدامية صالحةً للاستعمال السياسي. لذا يُمسح القاتل بـ"خرقة" التحالف، ويُلمّع الجلاد بوصفه رجل المرحلة، أياً كان، لأن العدالة في ميزان القوى الدولية ليست سوى بندٍ فرعي في دفتر الصفقات.

"من قتل نفساً بغير حقٍّ" لا يُغفر له عند الله، فكيف يُغفر له عند الدول؟ من أين جاء هذا "الصابون" الذي يمحو الدماء من يد القاتل ولا يمسح وصمته من جبين الضحية؟ إن أهل الضحية حين يُجبرون على الصفح لحقن الدماء أو لقاء مالٍ أو منصبٍ أو تهديدٍ لا يُبرّئون القاتل، بل يُساقون إلى جريمةٍ ثانية: المشاركة في تبرئته.

في دمشق، تلتفّ حول السلطة العابرة ثلّة من الذين بدّلوا وجوههم كما يبدّل المرء مركبته. كانوا من أكثر المصفّقين للطاغية وأبيه، ثمّ حين شمّوا رائحة السقوط بعد تونس ومصر وليبيا واليمن 2011، هرعوا إلى الضفة الأخرى، لا لأنهم تابوا، بل لأنهم أدركوا أن الغرق قريب. فقد انتقلوا من تحت ظل عباءةٍ إلى أخرى ليحافظوا على وهم سلطتهم الصغيرة أو ليصنعوا لأنفسهم سلطةً جديدة في ظلّ القادم المجهول.

ولئن بدت هذه "التوبة" في ظاهرها ندماً، فهي في جوهرها حسابٌ مصرفيّ جديد، يبدّل العملة لا الضمير. فلأنّ النصرة وتوابعها قد سُلِمَت إليها دفة السلطة اليوم، نتيجة حالة اغتصاب إقليمية دولية من يدي مغتصب ابن مغتصب ضمن سلسلة اغتصابات، فقد اصطفّ هؤلاء تحت راياتها، ولو أن أحد أبناء الأسد أو قادة البعث — في المقابل — عاد إلى الواجهة، لرأينا الوجوه ذاتها تسبّح بحمده. لأن الإيمان عندهم بالسلطة لا بالوطن، وبالربح لا بالحقّ.

أما "الرئيس المؤقت" الذي رأت فيه واشنطن مطهّراً بديلاً، فلا يختلف في جوهره عمن سبقه. كلّ ما يريده أن يجلس على الكرسي، ولو على أطلال وطن وأنهار الدماء. إذ لم يوفِ بعد بوعوده للداخل، ولم يُقدّم سوى تنازلاتٍ متتالية، يُغلفها بوقارٍ دينيّ زائف ليُرضي داعميه من العرب والبطانة الجاهزة. كلّ منهم باعتباره يخدم مخططاً لا شأن للسوريين به. مخططاً لديمومته هو. أما دعم الرئيس المؤقت — المتورّم غطرسة — للمجازر المرتكبة بحق العلويين والدروز، وتحريكه لبيادق العشائر، وتعيين مستشارين من رماد القبائل، فليس كلّ ذلك إلا شواهد على هشاشة رؤيته وتناقضه، على رغبته في أن يُطهر نفسه بدم غيره، بالِرغم من ما يظهر عليه من بريق أو كاريزما مصطنعة مدروسة، بالِرغم من أنه ذاته عارف أنه يؤدي مجرد دور مسرحي، وما الهالة التي أحيطت به بهتاناً إلا زائفة لا تناسب سيرته وحقيقته، وفق ما هو عليه حتى الآن.

كلّ هذا التطهير المزعوم لا يُنقذ أحداً من كلمة وموقف ومحاكمة التاريخ. فالغرب الذي يُوزّع صكوك الغفران يحتاج هو ذاته إلى تطهيرٍ من آثامه الاستعمارية، من تراكمات النفاق السياسي، من وهم أنه يستطيع غسل الآخرين بينما يديه ملطختان بأدران ووحول مستنقعات الأسواق والسلاح والنفط.

وسط كل هذا التزييف والتزوير والخداع، في حضيض ثقافة زمن "ثقافة التفاهة"، فلا أحد بات يذكر الثورة، حتى من ادّعاها وهو من بطانة السلطة السابقة، بعد أن حظي ببريق وعدٍ أو كرسي. أجل، لا أحد يذكر الثوّار. ولا أقصد — بالثوّار — كلّ أولئك الذين استلموا مفاصل المجلس الوطني أو الائتلاف أو الحكومة المؤقتة، فليس كلّ من جلس على كرسيّ المعارضة كان ثائراً، بل فيهم من بدأ ثائراً وانتهى فاسداً. الثوّار الحقيقيون هم أولئك البسطاء الذين وقفوا لا على أسسٍ طائفيةٍ، بل على إيمانٍ بالحقّ، من قالوا "لا" للنظام في ذروة الخوف، من واجهوا نهج البعث والطغاة بصدورٍ عاريةٍ وقلوبٍ مفعمةٍ بالكرامة. هؤلاء لم تتلوث أكفّهم بالتصفيق للنظام، وما إن واتتهم الفرصة حتى ثاروا، لا ليأخذوا سلطةً، بل ليعيدوا إلى الإنسان صوته، وإلى الوطن معناه.

ومؤكَّدٌ أننا نعيشُ مرحلةً مفصليةً في حياةِ سوريا بعد هذه التحوُّلاتِ الجديدة، ويعود الفضلُ لدماءِ الثوّار الحقيقيين لا إلى أولئك الذين أُحضِروا إلى سوريا لقاءَ مالٍ أو لأنهم وجدوا فرصةً لممارسةِ هوايةِ القتلِ والسرقةِ والفسادِ، وما أكثرَ هؤلاء كما رأينا في عفرين.

المطهّر الحقيقي لا يُقام في قصور السياسة، بل في الشارع الذي أُريق فيه الدم، في الاعتراف لا في الإنكار، في إعادة الحقّ إلى أصحابه لا في عقد التحالفات فوق جثثهم. التطهير الدنيوي يبدأ حين تعود السلطة إلى الجماهير، حين تُكتسب القوة من الناس لا من البنادق، وحين يُقال للسلطة: لا.

ما دام هناك مكوّن سوري واحد يرفض الانحناء. ما دام هناك فرد واحد ذي رؤيةٍ صحيحةٍ صادقةٍ يرفض السلطة العابرة، فإن هذه السلطة المولودة بفضل الرشا النفطية، والرضى الأجنبي، من صلب قاعدة بيانات الحسابات المالية لهذا الأجنبي، من معادلات جشعه المصلحي، فاقدة للشرعية، والمطهّر الذي تصنعه المؤتمرات ملوث من الأصل. لا زمزم يطهّر قاتلاً، ولا ماء الأرض كلّها يكفي لغسل الدم السوري. لأن القتل لا يُغتفر، والمطهّر الملوّث لا يُطهّر أحداً، بل يزيد الملوث تلوّثاً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.