: آخر تحديث
ما بعد الانتخابات العراقية:

ثلاثة أبواب وطريق واحد

1
1
1

تبدو الساعات الأولى بعد انتخابات 2025 وكأنها لحظة عراقية معلّقة بين ثلاثة أبواب مفتوحة على احتمالات معقّدة، لكنّ طريقًا واحدًا فقط سيبقى صالحًا للمشي فيه حين يهدأ غبار الصناديق. في بغداد، وفي البيوت السياسية الشيعية تحديدًا، تدور معركة تشكيل الحكومة المستقبلية، وهي معركة تتجاوز الأشخاص والكتل إلى إعادة تعريف مركز الثقل داخل السلطة. ومع كل ذلك، تقف الولايات المتحدة على الضفة الأخرى تراقب، وتُرسل إشاراتها عبر مبعوثها الجديد مارك سافايا، في خطوة تؤكد أن ما يجري في بغداد لم يعد شأناً داخلياً بحتاً.

الباب الأول الذي يقف أمامه المراقبون هو محاولة إعادة صياغة حكومة أغلبية شيعية تُدار من داخل الإطار التنسيقي. ورغم أن الإطار بدا بعد الانتخابات أقل تماسكاً مما كان عليه قبلها، إلا أن رغبته في استعادة زمام المبادرة لا تزال حاضرة بقوة. تقارير سياسية عدة، من بينها ما نشرته الجزيرة وسكاي نيوز عربية حول اجتماعات الإطار ومشاوراته، تحدثت عن رغبة داخلية في إعادة إنتاج حكومة مشابهة لتجربة 2022 لكن بقبضة أشدّ على القرار التنفيذي وبإعادة ترتيب للسلطة داخل البيت الشيعي. هذه القراءة تُعيد نوري المالكي إلى الواجهة، خصوصاً في ظل تلميحات كتل داخل الإطار – أشارت إليها تحليلات محلية ودولية – بأن التجديد لمحمد شياع السوداني قد لا يكون خياراً سهلاً أو مقبولاً للجميع.

عند هذا الباب يظهر السؤال الأكثر إثارة: هل يمكن أن يعود المالكي رئيساً للوزراء؟

بعض الصحف العربية، مثل العربي الجديد، نقلت خلال الأشهر الماضية عن مصادر سياسية بارزة قولها إن المالكي يتحرك بهدوء، وأن هناك من داخل الإطار من يرى فيه “الخيار الأكثر خبرة” لإدارة مرحلة ما بعد الانتخابات، خصوصاً إذا أرادت القوى الشيعية استعادة مركزية القرار وتفادي استقلالية السوداني المتنامية. لكن هذا المسار ليس مفروشاً بالورود؛ فعودة المالكي ستعيد معها توترات قديمة، وتفتح جبهات سياسية واسعة داخلياً وخارجياً، بما فيها حسابات واشنطن وطهران.

الباب الثاني هو محاولة السوداني تشكيل حكومة بمعزل عن الإطار، وهو خيار يبدو مغرياً للرجل بعد أن راكم شبكة علاقات خارجية وداخلية خلال ولايته الأولى، ونجح في تقديم نفسه كخيار براغماتي قادر على التعامل مع المجتمع الدولي. لقاءاته الأخيرة وتصريحاته التي بثتها Reuters وروداو قدّمت صورة لرجل يريد أن يقود حكومة أوسع من الأطر التقليدية، حكومة تضع الاستقرار الاقتصادي في واجهة المشهد وتستعين بدعم القوى السنية والكردية لتخفيف وزن الإطار في القرار الحكومي. ومع ذلك، يعرف السوداني أنه يتحرك في حقل ألغام؛ فالإطار لن يقبل بسهولة بفكرة “الخروج من العباءة”، وأي خطوة غير محسوبة قد تؤدي إلى خلط أوراق كامل.

على الباب الثالث يقف العامل الخارجي، وتحديداً الولايات المتحدة التي عادت لتضع العراق في عيونها بعد سنوات من التراجع النسبي في ملف بغداد. تعيين مبعوث رئاسي جديد هو مارك سافايا – كما أوردت منصات أميركية مثل Axios – لم يأت من فراغ؛ فالإدارة الأميركية تدرك أن نتائج انتخابات 2025 قد تعيد تشكيل توازنات السلطة في بلد ما زال يتحكم في جزء مهم من معادلة أمن الطاقة الإقليمية، وما زالت حدوده تعكس صراع النفوذ بين واشنطن وطهران. وجود مبعوث بهذا المستوى يعني أن الولايات المتحدة ستدخل بشكل أعمق في تفاصيل المشهد المقبل، وستحرص على أن لا تُفرز التسوية رئيساً للحكومة يميل بشكل واضح إلى محور واحد على حساب آخر.

ورغم تعدد هذه الأبواب، يبقى الطريق الذي ستسير فيه البلاد واحداً: اتفاق داخل البيت الشيعي. كل السيناريوهات الأخرى مجرد تفاصيل تُمهّد أو تعرقل هذا الطريق. فسواء تقدّم المالكي أو حافظ السوداني على موقعه أو نشأت صيغة هجينة، فإنّ لحظة الحسم ستأتي من نقطة واحدة: قدرة القوى الشيعية على إنتاج قرار موحّد يُرضي حلفاءها الإقليميين ولا يصطدم بالكامل بالرؤية الأميركية. وما لم يحصل هذا التوافق، ستدخل البلاد في فراغ سياسي طويل يذكّر بتعقيدات تشكيل حكومة 2010 و2022، وهو فراغ لا يتحمله اقتصاد مثقل ولا مجتمع سياسي هش.

في الأسابيع المقبلة ستظهر الإجابات. ستتقدّم جولات التفاوض، وستُختبر قدرة السوداني على المناورة وقدرة المالكي على العودة وقدرة الإطار على الحفاظ على تماسكه، وستُقاس درجة حرارة الوجود الأميركي في بغداد. لكن الحقيقة التي يعرفها الجميع هي أن العراق، اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا يملك رفاهية الاختلاف العميق. ثلاثة أبواب مفتوحة أمامه، لكنّ الطريق الحقيقي نحو الحكومة المقبلة لن تكتبه الصناديق وحدها؛ بل سيكتبه ميزان القوة داخل البيت الشيعي، ثم تُقوّمه أنظار الخارج.

وربما قد يكون عامل السرعة هذه المرة هو الاختبار الحقيقي؛ فالتأخر في تشكيل الحكومة قد يدق جرس إنذار عند واشنطن، ويدفعها إلى تحرّك مباشر عبر مبعوثها الجديد الذي يعتبره بعض المراقبين جزءاً من “استراتيجية اقتصادية” أمريكية لفرض وتيرة أسرع في اتخاذ القرارات العراقية. وربما يحمل سافايا في جعبته ملفات لا تتعلق فقط بالسياسة، بل بالاقتصاد والطاقة، وهو ما أشارت إليه تقارير تحدثت عن خلفيته التجارية والمالية وإمكانية ربط الدعم الأميركي بخطوات اقتصادية تتعلق بالإصلاحات أو مشاريع إعادة الإعمار.

وربما أيضاً لا تمانع واشنطن – وفق تصريحات نقلتها بعض المنصات – استخدام ملف الميليشيات كورقة ضغط؛ فمبعوث ترامب تحدث صراحة عن دعم العراق في إنهاء “التدخل الأجنبي والميليشيات المسلحة”، وهي عبارة قد تُترجم في لحظة معينة إلى ضغط سياسي مباشر على شركاء الإطار، ما قد يفتح صراعاً خفياً بين القوى الشيعية والوجود الأميركي في بغداد. وفي المقابل، قد تتحرك بعض فصائل الإطار لرفض هذا التدخل، وهو ما ظهر بالفعل في تصريحات قياديين تحدثوا عن “عدم الحاجة لمبعوثين خارجيين”.

وربما – في سيناريو آخر – تكون هناك تسوية عميقة خلف الكواليس: صفقة غير معلنة بين واشنطن والسوداني تمنحه غطاءً دولياً لتشكيل حكومة أوسع، مقابل التزامات اقتصادية أو أمنية معينة. بعض التحليلات المحلية تحدثت بالفعل عن احتمال أن السوداني لم يعارض ترشيح سافايا، بل ربما استفاد منه لرفع سقف تفاوضه داخل الإطار.

وفي كل هذه الاحتمالات، يبقى شيء واحد معلقاً في الأفق: أن العراق قد يكون على أعتاب مرحلة جديدة، مرحلة لا يحدد شكلها الفائز بالانتخابات وحده، بل التقاء المصالح الأميركية والإقليمية مع تناقضات البيت الشيعي وتوازناته الداخلية. ولذلك قد يكون القادم ليس مجرد حكومة جديدة… بل معادلة جديدة بالكامل، معادلة قد تحمل استقراراً طال انتظاره، أو تعيد فتح باب من التعقيد السياسي لا أحد يعرف أين ينتهي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.