ترى هل بين الأزمات العربية المختلفة، من السودان إلى العراق إلى ليبيا إلى لبنان وغيرها، من رابط، ربما يذهب البعض إلى نفي ذلك، أما إذا أردنا أن نبحث في العمق، فإن هناك رابطاً خلفياً يستطيع المتابع أن يضع يده عليه، يجمع بين تلك الأزمات.
ذلك الرابط من جزأين؛ الأول عدم فهم الفرق بين الدولة القومية والدولة الوطنية، والثاني عدم فهم الفرق بين المواطنة والهوية، يربط هذه العناصر بألوانها عنوان عريض اسمه «الفشل في إدارة التعدد».
هذا الفشل هو الذي يسبب كل هذه الأزمات التي حولنا في فضائنا العربي الممتد.
في المنطقة تفكير يراه البعض؛ أن الدول العربية هي دول مصطنعة، وأن الحل هو الأمة العربية، أو الأمة الإسلامية، وبالتالي ليس لديه أي خلاف مع تجاوز الوطن، من أجل مشروعات أوسع يعتقد أنها هي المَخرج للمشكلات العربية المختلفة، والبعض يرى أن الوطن هو الهوية، لذلك يحاول أن يصهر هوية شاملة موحدة للمواطنين في الوطن الواحد، وهذا أيضاً مستحيل؛ لأنه لا يوجد في هذا العالم (عدا المجتمعات المعزولة جداً التي تحمل هوية موحدة)، كل الدول والمجتمعات تحمل هويات متعددة.
متابع لهذا الأمر هو لي سميث، كاتب أميركي، نشر كتاباً منذ خمسة عشر عاماً، لم يترجَم إلى العربية، بعنوان «الحصان القوي: القوة والسياسة وصدام الحضارات العربية»، حاول فيه أن يفسر منطق الصراع في الشرق الأوسط من الداخل الثقافي العربي، لا من خلال إسقاطات غربية تقليدية، واستند عمله إلى سنوات في المنطقة، حيث عاش في بيروت ودمشق والقاهرة، مراقباً التحولات السياسية والفكرية، إذا أضفنا إلى ذلك كتاباً آخر مهماً، والذي تُرجم إلى العربية تحت عنوان «الناصرية وموروثها» للصحافي البريطاني أليكس روال عن التجربة الناصرية، وتأثيرها السلبي في المنطقة العربية.
زبدة هذين الكتابين، على ما بهما من فروق، هي تلك المعاناة الإنسانية الضخمة التي تكبدتها الشعوب تحت ما يسمى «مستنقع الآيديولوجيا» في بناء الأوطان، مثل وحدة الهوية، أو الانتماء إلى ما بعد الدولة، وكيف عسفت بالإنسان العربي.
حقيقة الأمر أن هذه المنطقة لم تعرف مفهوم الدولة الحديثة بمعناها المؤسسي، فتعرف السلطة بوصفها امتداداً شخصياً أو عائلياً أو طائفياً، لذلك نجد ظاهرة الانقلابات العسكرية المتكررة تحت الشعارات الآيديولوجية المختلفة، وفي الوقت نفسه تُهمش القوانين، وتدار السياسة العامة بمنطق غير منطق المواطنة.
غياب مفهوم المواطنة المتساوية تحت قانون شامل جعل من المجموعات ما دون الدولة تعتمد إما على رديف غريب، أو مظلومية متخيلة.
إذن ما نشهده في هذا القرن الحادي والعشرين من سقوط نظام صدام حسين، ومِن بعده القذافي، ومِن بعده البشير، وقبل ذلك علي صالح في اليمن، كلها عائدة إلى محاولة فجة في صِهر المواطنة في الهوية المتخيلة وتجاوز الدولة الوطنية.
اليوم ليس غريباً إذاً الصراع الدامي في السودان، على خطوط إثنية وعِرقية ومصلحية، وليس غريباً أيضاً الصراع السياسي في العراق على الخطوط العِرقية والمذهبية نفسها، والتي تختفي وراء ميليشيات مسلّحة فتُغلب ما دون الدولة على الدولة، كذلك ليس غريباً أن تحتفظ مجموعة من الشعب اللبناني بسلاح يهدد كيان الدولة اللبنانية نفسها. وإذا ذهبنا إلى الجناح المغربي فسوف نجد ذلك الصراع على الصحراء الغربية، صراعاً بين الإخوة، وهو صراع غير مبرَّر، إذ عطّل التنمية في تلك المناطق إلى حد بعيد.
عندما تنهار الدولة المركزية كما في ليبيا والعراق وسوريا ولبنان، تصبح الأقليات أو المجموعات ما دون الدولة هي السائدة، وتتكئ على سند خارجي، وتبقى المجموعات الأخرى مهمَّشة، وتقع ضحايا الفوضى الطائفية والسياسية.
ذلك كله ينمّ عن غياب التعاقد المدني والمحترم بين الجميع الذي يساوي بين الأفراد في الحقوق والواجبات؛ أيْ غياب الاعتراف بالحقوق العامة والمساواةِ بين المواطنين في ظل الدولة المدنية.
الإصلاح لا يمكن أن يأتي من خلال انتخابات شكلية، بل من تحول ثقافي داخلي يبدأ في مؤسسات التعليم بالتوجه نحو احترام القانون والمؤسسات، بدلاً من الأشخاص، وترسيخ المواطنة فوق الهوية الدينية والقبلية، والاعتراف بالمجموعات المختلفة في المجتمع كمكون أصيل وأساسي لتطور المجتمع.
بعضنا ذهب إلى فكرة الانتخابات والديمقراطية، ولكنها تجاهلت المنظومة الثقافية والاجتماعية القائمة على الولاء والقوة، وخلق أعداء غالباً ما يُستخدمون أداة لتبرير الفشل الداخلي، ومحاولة توحيد الشعور الجمعي حول عدو خارجي، بدلاً من مواجهة أزمة المواطنة داخل المجتمعات العربية نفسها، تخلق تلك المواقف السياسية أزمات تؤدي إلى انفجار وحروب أهلية، كما في اليمن والسودان وغيرهما.
معظم القوى التي تعرض نفسها اليوم بديلاً، تعتمد الآليات نفسها؛ وهي الخضوع لآيديولوجيا شمولية، وليس عبر إعادة تعريف القوة، من قوة السيطرة إلى قوة المؤسسات وقوة القانون والمعرفة، من أجل التعايش في مجتمعات صحية متعايشة.
آخر الكلام: الأزمة في اختصار الدولة في الشخص، وليس المؤسسة.

