: آخر تحديث

شعبويات اليمين واليسار والمآلات

2
2
2

ظهرت شعبويات اليمين والهويات الوطنية المتوترة في أوروبا، وسرعان ما استولت على بعض الحكومات، حتى في الدول الاسكندنافية التي كانت الأكبر ليبراليةً بعد الحرب العالمية الثانية! أما في أوروبا الغربية، فقد استولى هؤلاء حتى الآن على رئاسة الحكومة في إيطاليا؛ إحدى الدول الأوروبية الكبرى. ويتحدث هؤلاء جميعاً بالسلب عن سياسات «الاتحاد الأوروبي» وعن ترتيبات الاقتصاد، لكنهم ما أثّروا ظاهراً إلا في قوانين الهجرة وسياساتها، فهم مشهورون منذ بداياتهم بالعداء للمهاجرين الذين غصّت بهم دول أوروبا خلال العقود الثلاثة الماضية. لكنّ الأكبر معاناةً من اتجاهات اليمين واليسار الجديدة في أوروبا هي فرنسا ومجتمعها السياسي، حيث ضعفت تيارات الوسط ضعفاً شديداً، وظهر انقسامٌ عمودي بين «يسار راديكالي» و«يمين راديكالي» هدَّدا استقرار النظام السياسي في البلاد.

أما في الولايات المتحدة، فقد تواترت منذ ثمانينات القرن الماضي تمردات باتجاه اليمين المحافظ في الحزب الجمهوري على وجه الخصوص. وبخلاف أوروبا، فقد ظهرت إلى جانب المحافظين الجدد (القادمون من اليسار) نزوعات دينية إنجيلية اتجهت للتأثير في المجال السياسي خلال أكثر من عقدين، وآلت جميعها معاً إلى ما يشبه التيار المتنامي مع بروز «ظاهرة الرئيس دونالد ترمب» قائد التوجه. وهؤلاء يريدون تصغير الحكومة ومكافحة الهجرة ومقاسمة العالم بدلاً من الامتداد فيه.

إنّ الجديد الذي يمكن تلمُّسُهُ في التوجهات الشعبوية بالولايات المتحدة هو ظاهرة زهران ممداني في انتخابات عمدة نيويورك؛ كبرى المدن الأميركية. الرئيس الأميركي شديد الغضب على ممداني ويعدّه شيوعياً تخريبياً يسارياً. وممداني مهتم بالملف الاجتماعي بالمدينة، وساخطٌ على رأس المال الكبير الذي يسيطر في المدينة لغير مصلحة فقرائها. بيد أنّ الشباب من أنصار ممداني لا يُظهرون سِماتٍ آيديولوجية حادّة كسمات اليسار الأوروبي، بل هم أدنى إلى جيل «زد (Z)» الذي يجري الحديث عنه كثيراً في أنحاء مختلفة من العالم وليس بالولايات المتحدة فقط.

إنّ السؤال الآن: هل يتحمل الحزبُ الجمهوري الأميركي ظِلَّ الرئيس ترمب الثقيل على مدىً طويل، وهل يتحمل الحزبُ الديمقراطي الأميركي طائرةَ ممداني الورقية المتعملقة؟ في بريطانيا ظهر في العقود الأخيرة حزبٌ ثالثٌ تنامت مقاعده في البرلمان وفي البلديات على حساب الحزبَين التقليديين... وكذلك في عددٍ من البلدان الأوروبية التي، باستثناء ألمانيا، ما كانت تملك ثنائية حزبية صلبة. وتكاد ألمانيا تفقدها الآن.

أستاذ السياسات المعروف جون ميرشايمر يعدّ كل هذه التطورات خيبات لأنظمة الدول الكبرى الغربية بعد «الحرب العالمية الثانية». وقد قامت على 3 أسس: الليبرالية، والواقعية، والمصلحة الوطنية، واعتقدت أنها تستطيع قيادة العالم بها والتنافس أخلاقياً واستراتيجياً بها مع الاتحاد السوفياتي. ولأنّ الاتحاد السوفياتي سقط؛ فقد عدّ الليبراليون أنظمتهم معصومة. ولذلك؛ فقد توترت علاقاتهم مع روسيا الاتحادية، وفوجئوا بصعود الصين، وانصرفوا لإقامة دولٍ ديمقراطية بالغزو العسكري حيث لقوا فشلاً ذريعاً. كان جوزيف ناي، الأستاذ المعروف وصانع السياسات، يتحدث عن «القوة الناعمة» ويعني بها الجاذبية التي تتمتع بها الولايات المتحدة لجهات عدة، لكنّ الجاذبية تضاءلت؛ لكثرة الحروب والأزمات، ولتقدم فريق المصلحة الوطنية من جهة؛ الذي يواجهه الآن شباب «زد (Z)» من جهة أخرى، وهو انقسامٌ قد يتعمق ويصبح أزمة أجيال.

نعرف حتى الآن سياسات الرئيس ترمب وهيامه بصنع السلام عبر الصفقات. وكنا نشكو من ضعف التأثير الأوروبي على الأزمات والتوسط فيها بمنطقتنا. وهم يعتذرون الآن بأنّ الرئيس الأميركي يريد الانفراد والاستئثار. وقد جربنا السياسات الليبرالية تجاه المنطقة في فترتَي الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما فأَورثَتنا «الإخوان المسلمين» و«التيارات الجهادية». ولذلك؛ ورغم صرخات يساريي فرنسا وأنصار زهران ممداني بنيويورك لمصلحة فلسطين، فإنه ينبغي البقاء على حَذَر؛ لأنّ تيارات «المصلحة الوطنية» وشعبوياتها بأوروبا وأميركا هي اتجاهات لا تملك في الحقيقة سياسات عالمية ذات بصيرة، بل هي ناجمة عن غليانٍ داخلي يحتاج إلى زمانٍ للنضج والاستقرار على خطوطٍ كبرى.

ما يجري في أوروبا وأميركا موجات تغييرية كبرى. وكذلك في روسيا والصين والهند. بيد أنّ هؤلاء التغييريين الكبار تبقى المصلحة الوطنية أو القومية رائدهم. والآليات التغييرية من خلال الانتخابات وحكم القانون لا تزال هي السائدة؛ فهل تشكّل ضمانةً للعودة إلى شيء من التوسط؟ الخبراء الاستراتيجيون متشائمون بشأن التزام الآليات؛ وفي أوروبا أكثر من الولايات المتحدة. أما السياسيون المحترفون فهم مصرّون على الترشح في هذا الحزب أو ذاك وفق ما يتيح لهم ذلك الطامحون إلى الزعامة، وما عاد التوسط رائدهم، بل الإصغاء لما يعدّونه انجرافاً باتجاه الانعزال عن الولايات المتحدة تارةً، وعن العالم تارةً أُخرى.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد