سهام القحطاني
في نظرية الصفر اللغوي يقع النحو في المرحلة الثانية أو كما أسمتها الدكتورة سناء البياتي «مديرية الرابط» أي ما بين تكوين الفكرة و تمثيل الدلالة وبذلك فالنحو ماهو سوى «وظيفة ربط وارتباط» بين قيمتي تكوين الفكرة وتمثيل الدلالة، وبهذا المنطق أظن أننا أمام موقف لتراجع هيبة النحو وسلطته التي ترسخت منذ زمن مرحلة تنقيط الحروف هذه المرحلة وما تلاها التي أسست لسلطة النحو ورفعته فوق الكل حتى النص القرآني، هذه السلطة التي هيمنت على لغة العرب وأنشأت فيها الشاذ و الزيادة و أكثرت من المخارج و التأويلات؛ حتى أصبح محتوى النحو العربي فلسفة لا يفقهها حتى الفصحاء الأقحاح.
لم يعرف العربي قبل الإسلام النحو كنظام لغوي، وكانت قواعد خطابه اللغوي مرهونة بأمرين هما الوراثة -توارث قواعد الخطاب اللغوي- والأمر الثاني مواقفه الحياتية، أو القصدية التي كانت تتحكم في إنتاج مواقفه اللغوية.
فالموقف الانفعالي هو الذي يحكم نشأة الموقف اللغوي وليس العكس كما في النظام النحوي، وهذا الاختلاف في منظومة نشأة الخطاب اللغوي ما بين الموقف الانفعالي والقواعد النحوية هو الذي أنتج اللواحق التي وصفها النظام النحوي «بالشواذ والزوائد» وأقام لها هوامش التأويلات والمخارج.
وهنا سنتوقف على سبيل المثال أمام قواعد نحوية تعرضت لتأويلات لكونها خارجة على نظام التقعيد وهي حاصل الموقف الانفعالي لصانع الموقف اللغوي.
فالعربي قبل النظام النحوي كان يبني خطابه وفق مقتضى الموقف الانفعالي أو التعبيري؛ فهو ينصب متى ما كان النصب هو ما يمثل الدلالة التي يعبر عن موقفه الانفعالي والتعبيري لا وفق مقتضى العامل الذي أسس معطياته فيما بعد النظام النحوي؛ دون مراعاة إن كان الفعل متعديا أو لازما، وهذا الأمر هو الذي أنتج لنا مصطلحا نحويا يُسمى «المنصوب على نزع الخافض» كقول جرير:
تمرون الديار ولم تعودوا
كلامكم عليّ إذن حرام
فالفكر في الألم مقتضب التعبير متعجل الدلالة، وهو ما يجعل الاقتصار مصدر الوحدة الانفعالية في القول، وهو ما يوجب حذف مالا يؤثر في قيمة التعبير لا النظام اللغوي.
وإن كان مصطلح «النصب على نزع الخافض» يناقش حذف حرف الجر في ما يجب توفره فيه، ففي المقابل لدينا مصطلح «الزوائد في النظام النحوي»
إن «زوائد الحروف» في الكلام الذي حظي بالكثير من الأوصاف الغريبة مثل «اللام المزحلقة» و الغريب من المخارج، لهي أكثر الشواهد على تأثير الموقف الانفعالي في تشكيل الموقف الخطابي؛ فالزوائد هي ترميزات للإحاطة بقيمة الدلالة المقصود بإيصالها، فقيمة الدلالة في الموقف التواصلي عند العربي كانت تسبق قيمة النسق النحوي لأن تلك القيمة هي التي تمثل حالته المرتهنة بالموقف اللغوي الانفعالي.
فإضافة الحرف هي علامة تعبيرية انفعالية في حالاته المختلفة الطارئة للموقف اللغوي الذي يمر به المتحدث وهو ما يجعله يختار ما يعبر عن كمالية انفعاله وتمام قصديته بزيادة أو حذف.
إضافة إلى أن مصطلح الحرف الزائد يتعارض مع «كمال النص القرآني» فالأسلوب اللغوي في النص القرآني يراعي الموقف الانفعالي و القيمة التعبيرية للموقف اللغوي أو الكفاية الخطابية للموقف اللغوي، ففي بعض المواقف يسبق النظام النحوي لأن الغاية هي تمام القصدية وليس صحة النظام النحوي، أو قل أن النظام النحوي في نسخته البشرية ليس هو المؤشر الأصح للخطاب اللغوي.
ومن القواعد التي تعرضت للتأويل والحاصلة من قصدية الموقف الانفعالي التواصلي للمتحدث «التحذير والإغراء» والتي تتجاوز سيطرة العامل في مؤشره النظامي إلى «عامل القصدية والاقتضاء».
إن العلامات الإعرابية بعيدا عن نظرية العامل «هي رموز سيكولوجيّة للمواقف الانفعالية للمتحدث في تشكيل خطابه اللغوي الآني الفجائي أو المستقر» والنصب سيكولوجيا هو الأقرب تمثيلا للمواقف الطارئة والجر يناسب المواقف التواصلية المتأنية التي عادة ما تحمل في دلالته اليقين.
أما الرفع فهو علامة إعرابية تتناسب مع تحقق الوضوح.
ومن قواعد النحو التي هي حاصل الموقف الانفعالي أو النفسي التواصلي لتشكيل الموقف اللغوي للمتحدث هي مسوغات الابتداء بالنكرة، والتي تخالف القاعدة العامة والتي تنص على وجوب تقديم المبتدأ لكونه في حكم المعروف، لكن المتحدث في كثير من الأحيان يمر من خلال الموقف التواصلي اللغوي بحالات اهتزازية قد تؤثر على عدم يقينه أو رؤيته الخاصة في تقدير أولوياته، فيعبر عن ذلك التقدير باللغة، أو ما يتميز به من روح اللطافة والمفاجأة لغيره فينعكس ذلك في تعبيراته.
فاللغة هنا هي ممارسة حياتية حيوية اندماجية وفق اللحظات الراهنة للمواقف التواصلية في عمومها، وليس تطبيقا حادا لنظام مقولب.
لاشك أن النظام النحوي حمى اللغة العربية من فوضى العجمى، لكنه أثر في تجميد تطوير النحو ذاته، وأهمل القيمة للتواصلية للجملة المحكيّة.
وفي المقابل سنجد أن البلاغة هي التي راعت قيمة المواقف الانفعالية التواصلية في تشكيل الخطاب اللغوي للمتحدث من خلال التناسبية التواصلية بين مراعاة المقال للمقام، وهذا حديث آخر.

