الماضي.. ذلك الظلّ الذي يمدّ يده من عمق الذاكرة ليعيد ترتيب أرواحنا كما يشاء، جعلناه دائمًا مرجعًا للقيم والمبادئ الأولى، وبالتالي حرصنا على أن نستعيره تربيةً ومثالًا لكل ما ظننّا أنه الخير المطلق، فنعود إليه كلّما اختنق الحاضر بحداثته، نلوذُ به، نستنطقه، ثم نبكيه، وحين لا نجده كما كان في خيالنا، نلعن حاضرنا ونزهد في زماننا، كأنما الزمن الآتي مذنبٌ لمجرد أنه لم يُشبه الأمس!
لكنّ الماضي -في عمقه الحقيقي- ليس فردوسًا ضائعًا، بل ذاكرةٌ تنتقي ما تشاء من جمالٍ وتخفي ما تشاء من قبح، إنّه قيمةٌ تُقدّس لذاتها، لا لما حملت من وعي أو جهل، ولا لما أورثت من سلوكٍ أو حكمة، فكلّ جيلٍ يعيد الدور نفسه.. يقدّس ما كان، ويزدري ما هو كائن، حتى صار الماضي صنمًا ذا وجهٍ جميلٍ مصنوعٍ من الطين والعادة.
أفهم أن الحنين ليس لأن الماضي أجمل، بل لأنه لا يُستعاد، ففقدُ الشيء يمنحه هالةً من القداسة، نحن لا نشتاق للأمكنة كما هي، بل لما كنّا عليه فيها؛ نشتاقُ لأنفسنا حين كانت أكثر براءة، لا لأن الأزمنة كانت أبهى، هكذا يتحوّل الزمن إلى مرايا متقابلة، نُطيل النظر في الأولى فنفقد رؤية الأخرى، ويمتدّ الحنين فينا كعادةٍ تورّث، وكأننا لا نعيش إلا حين نفتقد.
لكن ماذا لو قلبنا السؤال: ماذا لو حاولنا أن نرى ما أضافه الحاضر على ماضينا؟ أن نقرأ التطوّر لا كخيانةٍ للأصل، بل كتحرّرٍ منه؟ هل سنظل نغنّي للماضي بعيونٍ مغلقة، أم سننصف اللحظة التي نحياها بكل ما فيها من وعيٍ وكرامةٍ وحقٍّ في الاختلاف؟
ربما هو سؤال الشعراء حقًّا، أولئك الذين يعيشون في ظلال الذكرى ويتنفسون من رئة الحنين. لكني -وإن قيل إني منهم- أجدني اليوم أميل إلى تمرّدٍ على هذا الحنين، تمرّدٍ يُفتّش في الماضي لا ليبكيه، بل ليُعرّي سوءاته، فليست كل القيم التي حملها الأمس تستحق أن تُحمل، ولا كل المروءات التي اختبأنا خلفها كانت مروءة، إنّها أحيانًا أقنعةٌ جماليةٌ لوجعٍ أخلاقيٍ عميق.
لقد أعادت لي صورًا قديمةً لرجالٍ من قريتنا الأولى تحمل وجوها من شمسٍ قاسيةٍ وأعمارٍ قصيرةٍ في الذاكرة، بحثت عن أسمائهم في ذاكرتي فلم أجدها، لكني تذكّرت ألقابهم، وقد كانت ألقابًا جارحة، مهينة، وُلدت من عنصريةٍ قرويةٍ مستترةٍ تحت ابتسامةٍ ريفية، كانوا يُعرفون بنعوتٍ تنتقص من أصلهم أو لونهم أو مهنهم، وكأن التهكم كان لغةً سائدةً، وكأن الاضطهاد كان نكتةً جماعية، في تلك اللحظة أدركت أن الحنين لا يملك ذاكرةً عادلة، وأن الماضي الذي نبكيه كان -في بعض وجوهه- ظالماً، متخلفاً، بل قاسياً إلى حدّ السخرية من الإنسانية نفسها.
نعم، لقد أخذتنا المدينة إلى وعيٍ آخر، إلى سلوكٍ أكثر إنسانية، إلى قدرةٍ على الاعتراف بالآخر، لكننا ما زلنا نحمل في عمقنا تلك الشظايا القديمة من عنف الذاكرة، نحن أبناء زمنٍ يحاول أن يُشفى من ماضيه، وكلّ حنينٍ مبالغٍ فيه هو إعاقةٌ لتلك الشفاءات.
الماضي إذن ليس جميلاً ولا قبيحاً؛ هو خزينةُ التجربة، بجهلها وجوعها وسذاجتها وسلوكها الأخلاقي المشوّه، لكن الذاكرة -وهي أبرع الرواة- تجيد التجميل والانتقاء، تُعيد رسم المشهد بما يليق باشتهاءات القلب لا بحقائق التاريخ، لهذا لا يصدقُ التاريخَ من يأتي بعده، لأنه سيعيد كتابته كما يشتهي، لا كما كان، وهكذا يبقى قول الأجداد صادقاً في جوهره: إن التاريخ يكتبه المنتصرون… والذاكرة تحفظه كما يليق بها لا كما يليق بالحق.

