محمد ناصر العطوان
يُحكى – والله أعلم بمَنْ يروي – أنّ رجلاً استيقظ ذات صباح على صوت رسالة رسمية تقول له:
«الرجاء مراجعة الجهة المختصّة... رقمك الوطني غير مُحدّث».
لم ينتبه الرجل للكارثة في الجملة.
ظنّ أن الأمر بسيط... تحديث رقم يُشبه تحديث الاشتراك في تطبيق ما.
لكن المفارقة أنّه حين وصل إلى الموظف، وسأله عن اسمه، قال الرجل بثقة:
– اسمي فلان الفلاني.
فأجابه الموظف ببرود إسمنتي:
– لا نحتاج اسمك... نحتاج رقمك فقط.
وهنا بدأت الحكاية.
لم يكن للرجل علمٌ بأن اللحظة ذاتها كأنها لحظة موته كإنسان، وبعثه من جديد كـ «رقم».
فالاسم – كما علّمته أمّه – كان يُنادى به في البيت، في الفريج، في العرس، في العزاء، وبين الأصدقاء في الديوانية.
أما الرقم، فلا يُنادى به أحد.
الرقم يُستدعى، والفرق بين أن تُنادى... وأن تُستدعى يشبه الفرق بين الحياة والورق.
الرجل في الحقيقة لم يفقد اسمه في ذلك الصباح.
لقد بدأ يفقده منذ سنوات طويلة، حين صارت الدولة تعرفه من بطاقته، والبنك يعرفه من حسابه، والوزارة تعرفه من ملفه، والمستشفى من رقم تلفونه، والمنزل من عدّاد الكهرباء، وحتى الهاتف من شريحة SIM.
كل شيء حوله كان يتغيّر ببطء، إلّا هو... كان يظن أن العالم لايزال يعرفه كما كان، الطفل الذي كان يركض حافياً خلف الكرة في شارع ضيق، ويضحك بصوتٍ عالٍ لا يخاف من الجدران... وأمه تناديه باسمه «هيا الغداء جاهز»... لكن الجدران كبرت، والأم ماتت، والطفل صغر، ثم اختفى.
عندما عاد الرجل إلى بيته ذلك اليوم، أراد أن يجرّب شيئاً بسيطاً، دخل على هاتفه، وفتح ملفه الشخصي، فوجد اسمه مكتوباً بخطّ صغير، تحته مباشرة الرقم بخطّ أكبر. ثم دخل إلى حساب الكهرباء، الاسم صغير... الرقم كبير... أمسك بطاقة البنك... الاسم صغير... الرقم كبير.
فتح خزينة أوراقه، وجد شهاداته أيضاً تتضمن أرقاماً أكثر من الأسماء.
حتى شهادة الميلاد التي تعب والده في استخراجها، كانت تحمل رقماً أطول من سطر الأسماء الثلاثة.
ضحك الرجل، ضحكة قصيرة تشبه شهقة...، ثم قال لنفسه:
– يبدو أني ميّت منذ زمن... وأنا آخر مَنْ يعلم.
ولأن الإنسان لا يموت مرة واحدة، فقد مات الرجل مرة أخرى في اليوم التالي، عندما ذهب إلى دائرة أخرى، فقال له الموظف:
– الرقم صحيح... لكن الملف لا يظهر.
فسأله الرجل:
– ماذا تقصد بالملف؟
قال الموظف وهو يرفع كتفيه كمَنْ يدفع التهمة عنه:
– يعني أنت... لا تظهر.
ثم ضغط على لوحة المفاتيح مرة... مرتين... ثلاثاً.
فلم يظهر الرجل.
الرجل كان يقف أمامه، حياً، يتنفس... لكنّه لا يظهر... وهذا أسوأ أنواع الموت، أن تكون موجوداً... لكن بت غير مرئي.
في المساء، جلس الرجل يفكّر:
منذ متى فقدنا أسماءنا؟
هل بدأ الأمر حين صار موظف المستشفى لا يسأل: «مَنْ أنت؟»
بل يسأل: «رقم دخولك؟»
هل بدأ حين صار المعلم يدوّن تقييمات الطلاب بالأرقام؟ وحين صار صوت وقيمة الإنسان نفسه تُقاس بعدد المتابعين؟ لم يكن يعرف... لكنّه كان متأكداً من شيء واحد:
أن اسمه، الذي كان يوقظه أبوه به كل صباح، ويهتف به أصدقاؤه في ساحات اللعب، صار الآن أكبر من أن يحتويه العالم... وأصغر من أن يُرى.
قبل النوم، كتب الرجل وصية قصيرة ووضعها في درج الخزانة:
«إلى مَنْ يجد وصيتي:
اسمي ليس كما تراه في البطاقة... اسمي هو ذلك الطفل الذي احترق تحت شمس الوطن، وضحك في وجه الحياة دون أن يعرف أنه سيصبح رقماً. إن أعدتم لي اسمي... سأعود إنساناً».
ثم أطفأ الضوء، ونام.
ولأول مرة، لم يقاطعه أحد ليسأله عن رقمه... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.

