«لزوم ما ليس له لزوم» فنّ بلاغيّ جميل في النظم والنثر، يعني أن يلزم الشاعر أو الناثر نفسه بحرف أو حركة قبل حرف الروي أو قبل الفاصلة، يهدف إلى زيادة الإيقاع الموسيقي وإظهار مهارة الكاتب اللغوية. لكنه أصبح وصفًا ينطبق — بألمٍ ومرارة — على واقع الجامعة العربية: هيئة عريقة الوجود، شديدة الإنفاق، ضعيفة الفعل، وكأنها صورة نعلّقها في مدخل بوابة “الأمة العربية” ليس إلا.
بين وجود شكليّ وتأثيرٍ غائب
في مقال سابق بعنوان «الجامعة العربية.. بين التراجع والإصلاح!» 7 أغسطس 2016، كتبت عن الجدل حول احتكار مصر لمنصب الأمين العام، ووصفت المنظمة بأنها «كيان ميّت منذ نشأته»، وأن القمم العربية أصبحت طقساً شكلياً لا يحقّق نتائج ملموسة. وها نحن اليوم، نرى أن الواقع لم يتغيّر إلا تراجعًا أكبر.
منذ نشأتها عام 1945، كانت الجامعة منصة رمزية للتواصل العربي. لكن تدهور الفاعلية أصبح واضحًا في السنوات الأخيرة: قمم تُعقد حضورًا شَحًّا، وقرارات تُعطى حبرًا على ورقٍ لا يُترجَم إلى تنفيذ فعليّ. الصورة التي تكرّست في عام 2025، ومع اقتراب نهاية العام، تُظهر أن الجامعة تكرر نفس الإيقاع الموسيقي الفارغ: بيانات، قمم، ووعود تُركت في الأدراج. إنفاقها السنوي (يُقدَّر بنحو مائة مليون دولار أو أكثر) يذهب في الهواء دون أثر يذكر.
التراجع المستمر: قمم 2025 بين الوعود والفشل
في عام 2025، عُقدت قمم للجامعة العربية، لكنها كانت كسابقاتها مجرد «لزوم ما ليس له لزوم»، تكرارًا للكلام دون فعل. أبرزها:
القمة الطارئة في القاهرة (4 مارس 2025): استضافتها مصر تحت شعار «قمة فلسطين» لمواجهة مخططات التهجير في غزة. اعتمدت «الخطة المصرية للتعافي المبكر وإعادة إعمار غزة» بتنسيق مع فلسطين والدول العربية، استنادًا إلى دراسات البنك الدولي والأمم المتحدة. الخطة تطالب بـ53 مليار دولار لإعادة الإعمار دون تهجير. لكن حتى الآن لم يُنفّذ ما يُذكَر؛ التمويل لم يتجاوز الوعود، والحرب في غزة مستمرة، مع تقارير عن تدمير واسع ومجاعة. البيان الختامي (23 قرارًا) دعا إلى وقف إطلاق النار، لكنه بقي حبراً على ورق.
القمة العادية في بغداد (17 مايو 2025): الـ34 في تاريخ الجامعة، تحت شعار «حوار وتضامن وتنمية». حضرها بعض القادة، ودعا العراق إلى مبادرات أمنية واقتصادية: تشكيل «مجلس وزراء التجارة العرب»، و«عهد الإصلاح الاقتصادي العربي» للعقد القادم، يشمل تحرير التجارة ومناطق حرة، وتطوير الطاقة المتجددة والمدن الصناعية المشتركة. كما أسس «غرفة التنسيق الأمني العربي المشترك». لكن الحضور كان محدودًا (أقل من نصف القادة)، والقرارات – بما فيها دعم إعادة إعمار غزة ومقاطعة الشركات الإسرائيلية – لم تُترجَم إلى خطوات فعلية.
هذه القمم، كما في السابق، أكدت مركزية القضية الفلسطينية، وطالبت بحل الدولتين، ومحاسبة إسرائيل دولياً. لكن غياب التأثير واضح: لا دور فاعل في غزة، سوريا، ليبيا، اليمن، أو السودان.
لماذا فشلت الإصلاحات حتى الآن؟
الجامعة تحولت إلى جهاز إداري جامد، ينفق ميزانيتها (حوالي 100-120 مليون دولار سنوياً، معظمها من السعودية والكويت) على اجتماعات وبيانات شكلية. في 2025، أشارت تقارير الأمم المتحدة إلى أن التعاون العربي-الأممي ضروري للصراعات، لكن الجامعة فشلت في تنفيذ قراراتها، كما في قرار مجلس الأمن 2732 بشأن كادوقلي في السودان. الجدل حول منصب الأمين العام أحمد أبو الغيط (مصري، منذ 2016) مستمر، مع ترشيح مصر لنبيل فهمي كخليفة، لكن هذا "جدل حول كرسي في سفينة غارقة"، كما كتبت سابقاً. وهكذا يمكن أن نحدد نقاط الفشل في:
1. غياب الإرادة السياسية الموحدة: حتى أفضل الخطط تصطدم بتباين أولويات الدول الأعضاء؛ ما يريده بلدٌ ما قد يخشاه آخر. الإصلاح الحقيقي يحتاج زخمًا سياسياً واحداً أو محركًا إقليمياً قويًا.
2. بنية إدارية قديمة وبيروقراطية متجذرة: أنظمة داخلية لم تُحدَّث بما يكفي لمواكبة تحديات القرن الحادي والعشرين، ما يحول القرارات إلى بيانات تُحفظ في الأدراج. (
3. تركيز الطرح السياسي على المظاهر لا على آليات التنفيذ: ميثاق قديم، قرارات غير ملزمة، وغياب آليات متابعة وفرض.
4. ميزانية ومصروفات دون شفافية كافية: نقدٌ متكرر لفعالية الإنفاق وحاجته إلى مراجعة وترشيد، خصوصًا أمام أزمات إنسانية واقتصادية تسأل عن أولوية الموارد. (الوثائق المالية المفصّلة للجامعة ليست سهلة الوصول العام، ما يجعل تقييم الإنفاق العام دقيقًا يحتاج مزيدًا من الشفافية من الدول الأعضاء والهيئة نفسها.)
مبادرات وإشارات إصلاحية حديثة
هناك محاولات واقتراحات جديّة لإصلاح المنظومة العربية، ومن بينها مبادرات سعودية سابقة طالبت بميثاق عربي جديد وآليات تنفيذية ملزمة. في 2023–2025 تكررت الدعوات إلى تصحيح مسارات العمل العربي المشترك، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني. كذلك، تبنّت الجامعة خططًا إقليمية لإعادة الإعمار والتعافي لبعض المناطق (مثلاً تبنّي خطط لإعادة الإعمار في غزة بعد جولات صراع)، لكن تحويل هذه الخطط إلى مشاريع ملموسة يظلّ معرّضًا لضعف التمويل ومحدودية الآليات التنفيذية.
رؤية عملية: دفن الميت أم محاولة إنعاشه؟
وأجد نفسي هنا أسأل مجدداً: هل ندفن هذا الكيان أم نعيد إنعاشه؟ الإجابة ليست ثنائية تمامًا. أمامنا ثلاث مسارات ممكنة، مع مزايا ومخاطر لكل منها:
1. إعادة هيكلة جذرية (استمرار مع تغيير جذري)
o نقل الصلاحيات التنفيذية إلى مؤسسات فرعية متخصصة (اقتصاد، أمن، تنسيق إنساني) مع ميزانيات واضحة وآليات محاسبة.
o عقد ميثاق عربي جديد يحدد صلاحيات ملزمة وآليات تنفيذ.
o ربط تمويل مشاريع الجامعة بتحقيق مؤشرات أداء قابلة للقياس.
2. تحويل الجامعة إلى منصة للتكامل الاقتصادي والاجتماعي
o التركيز على التكامل الاقتصادي (سوق مشتركة جزئية، مواءمة المعايير، تنسيق الجمارك والطاقة والبنية التحتية) بدل التركيز حصريًا على الخطاب السياسي.
o جعل المؤسسات الاقتصادية العربية (الصناديق، المصارف، الاتحادات) جسورًا قابلة للتنفيذ العملي.
3. حلّ جزئي: إبقاء الشكل، تفكيك الوظيفة
o الاستمرار في وجود رمز الجامعة كمنصة دبلوماسية، لكن نقل معظم القدرات التنفيذية إلى منظمات إقليمية جديدة أو تحالفات ثنائية/إقليمية.
o هذا مسار عملي لكنه يترك فراغًا رمزيًا ويثير أسئلة حول الهوية العربية المشتركة.
توصيات قابلة للتطبيق الآن (خطة قصيرة ومتوسطة المدى)
1. شفافية مالية فورية: نشر ميزانية الجامعة السنوية مفصّلة (رواتب، مشروعات، عقود) مع رقابة خارجية.
2. آلية متابعة للتنفيذ: إنشاء هيئة مستقلة لمتابعة تنفيذ قرارات القمم، تُقدّم تقارير نصف سنوية للدول الأعضاء.
3. تدوير منصب الأمين العام: اعتماد مبدأ التدوير الجغرافي للمنصب كل دورة (مثلاً: شمال أفريقيا — الخليج — المشرق) كخطوة رمزية لتعزيز الثقة.
4. إعادة توجيه الموارد نحو مشاريع ملموسة: توجيه نسبة محددة من ميزانية الجامعة لصندوق مشاريع تكاملية (بنى تحتية، صحة عامة، إعادة إعمار) بشفافية ومؤشرات أداء.
5. حصر مهام الجامعة الرمزية: ترك القضايا الأمنية المتعقّدة للتحالفات الإقليمية المختصة، مع إبقاء الجامعة كمنصة دبلوماسية وتنسيق.
6. مشاركة شعوب وفعاليات المجتمع المدني: إتاحة الحوار العام ومشاركة المنظمات الإقليمية والمجتمع المدني في صياغة أولويات التكامل.
خاتمة: من لزومٍ لغرضٍ أم لزومٍ لا لزومَ له؟
نحن اليوم أمام خيارٍ: إما أن ندفن الجامعة العربية في شكلها الحالي ونبني إطارًا جديدًا يعكس مصالح الشعوب، أو أن نُحدث إصلاحًا جذريًا يُجبر «اللزوم» أن يكون له لزوم — لزومٌ يخدم المواطن العربي لا مجرد شعارٍ على مدخل مبنى. إن الأهمّ ليس حذف الاسم، بل أن نعيد إليه روحه: فاعلية، شفافية، ومحاكمة للنتائج وليس للأسماء.

