تُعدّ الموهبة إحدى الظواهر الإنسانية الأكثر إثارة للتأمل، لما تحمله من تفرّد وخصوصية، ولما تثيره من أسئلة حول مصدرها وطبيعتها: هل هي هبة يولد بها الإنسان؟ أم أنها ثمرة تربية وصقل وتراكم خبرات؟
لقد شكّل هذا السؤال محور اهتمام الفلاسفة والتربويين وعلماء النفس عبر العصور، إذ حاول كلّ منهم تفسير جذور التميّز البشري، وخاصة في المجالات الإبداعية ومنها الموهبة الأدبية.
يرى كثير من المفكّرين أن الموهبة تبدأ من الفطرة، أي من ذلك الاستعداد النفسي والفكري الكامن في الإنسان منذ ولادته. وهذا ما يؤكده الأديب الطبيب عبد السلام العجيلي حين يقول إن “الموهبة الأدبية ترجع في أغلبها إلى الفطرة، وإنما تُهذَّب وتُجوّد وتنتج بعد أن تستخدم مكتسبات التربية البيئية، ومنها القراءة فضلاً عن مجموعة التجارب المحيطة بها".
ومعنى ذلك أن البذرة موجودة سلفاً؛ لكن نموّها وازدهارها لا يتحققان إلا بتربة خصبة تتكوّن من المعرفة والتجربة والاحتكاك بالثقافات.
من الناحية العلمية، تشير دراسات علم النفس إلى أن الاستعدادات الوراثية تلعب بلا شك دوراً في تكوين بعض القدرات؛ فهناك من يولد بحس لغوي مرهف، أو بقدرة عالية على الربط بين الصور والمعاني، أو بسرعة في معالجة اللغة. لكن هذه الاستعدادات، مهما بلغت قوتها، لا تتحول إلى موهبة حقيقية إلا عبر التدريب والممارسة. فالفطرة تمنح الإنسان الشرارة الأولى، لكن البيئة تشعل هذه الشرارة وتحوّلها إلى ضوء.
وعلى الجانب الآخر، يرى فريق من الباحثين أن الحديث عن موهبة فطرية خالصة قد يكون مبالغاً فيه، لأن الإنجاز الأدبي أو الفني لا ينفصل عن تراكم السنين، وعن الثراء المعرفي الذي يكتسبه الفرد عبر القراءة والتجربة والاحتكاك بالحياة. فكم من أشخاص لم تظهر لديهم بوادر موهبة في طفولتهم، ثم أبدعوا لاحقاً لأنهم وجدوا من يشجعهم، أو لأنهم انغمسوا في بيئة محفّزة أطلقت قدراتهم الكامنة.
وهذا يؤكد أن الموهبة ليست “جيناً جاهزاً”، بقدر ما هي رحلة طويلة من الصقل والتطوير.
إن الموهبة ـ سواء كانت أدبية أو فنية أو علمية ـ تشبه قطعة الرخام. قد يكون الرخام جيداً بطبيعته، لكن جودة العمل الفني لا تتحدد إلا بيد النحّات الذي يحول الكتلة الصامتة إلى تمثال نابض بالحياة. هكذا هي الفطرة: أساس متين، لكنها بلا صقل تبقى خاماً، وبلا تجربة تبقى غائمة، وبلا جهد تبقى حكاية ناقصة.
ولهذا، يظل السؤال: هل الموهبة موروثة أم مكتسبة؟
الإجابة الأقرب للصواب أن الموهبة مزيج من الأمرين معاً؛ إنها تبدأ بالفطرة، وتنمو بالاكتساب. فالإنسان يولد بحزمة من القدرات والاستعدادات، لكنه وحده ـ أو بمساعدة محيطه ـ يقرر كيف سيطوّرها، وبأي قدر من الجهد سيحوّلها إلى واقع ملموس. والفروق بين الناس لا تنبع من الاستعداد الفطري وحده، بل من الإصرار، والممارسة، والقراءة الواسعة، والتجربة العميقة.
وفي مجال الأدب تحديداً، قد تكون الفطرة هي الشرارة الأولى، لكن القارئ الجيّد هو الكاتب الجيّد، والكاتب المبدع هو الذي وسّع أفقه بالتجربة، وتفاعل مع الحياة بوعيه وحساسيته، ثم صاغ كل ذلك لغة نابضة بالجمال.
وفي النهاية، يمكن القول إن الحديث عن الموهبة بوصفها “هبة سماوية خالصة” ينتقص من جهد الإنسان، كما أن اعتبارها “صنعاً مكتسباً بالكامل” يخالف ما نراه من تفرّد بعض الأفراد. إن الموهبة هي ثمار شجرة جذورها فطرية، وساقها تربية، وأغصانها تجربة، وثمارها جهد وصبر ومثابرة.
ولعل هذا التوازن هو ما يجعل الموهبة الإنسانية أمراً مدهشاً؛ فهي هبة، لكنها هبة لا تثمر إلا في يد تعرف كيف ترعاها.


