التبس على كثير من عامة المسلمين نهج أسامة بن لادن، فبينما صوّر نفسه وجماعته على أنه جهادي في سبيل نصرة دين الإسلام ومحاربة الكفار، ظهرت أفعاله ونهجه أنه خارج عما جاء به رسولنا الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، مما جعل مسألة تصنيف نهج أسامة بن لادن ملتبسة عند عامة المسلمين، فخطابه العاطفي والشعارات التي رفعها أعطت انطباعاً عند كثير من الناس أنه مجاهد صادق في سبيل الله، بينما أفعاله ونتائج مشروعه أظهرت ما لا تغاير تماماً لما جاء به الإسلام من هداية ورحمة.
قدّم بن لادن نفسه كمدافع عن الإسلام والمسلمين، رافعاً راية الجهاد ضد أميركا والغرب، استخدم نصوصاً شرعية وأحداثاً سياسية كالاحتلال الأميركي للعراق ودعم الغرب لإسرائيل، لإثارة التعاطف الشعبي، وركّز على مشاعر الغضب والظلم، مما جعل كثيراً من الشباب ينجذبون إلى خطابه.
العمليات التي تبناها أو ألهمها أدت إلى قتل الآلاف من الأبرياء من المسلمين وغير المسلمين، وهو ما يخالف وصايا رسولنا الكريم في النهي عن قتل النساء والأطفال والمسلمين والمعاهدين. قال صلى الله عليه وسلم: لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من أن يراق دم امرئ مسلم. فتحت أفعاله الباب لتدخلات عسكرية كارثية في بلدان إسلامية في أفغانستان، العراق، اليمن، السودان، الصومال، وكانت نتائجها على الشعوب المسلمة مدمرة، وأعطت صورة مشوهة عن الإسلام عالمياً، حتى ارتبط اسمه بالدين في الإعلام الغربي باعتباره رمزاً للإرهاب.
جاء نهج بن لادن نقيضاً لنهج رسولنا الكريم الذي جاء بالرحمة. قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، بينما أفعال بن لادن ارتبطت بالعنف والقتل والدمار، وقد نهى ديننا الحنيف عن الغدر والتمثيل وقتل المدنيين. كذلك تبنى تنظيم القاعدة أسلوب التفجيرات العشوائية، وعلى النقيض من ذلك تميزت الدعوة الإسلامية بالحكمة والموعظة الحسنة، أما نهج بن لادن فقد اختزل الدعوة في السلاح والقتل فقط.
الخطاب الديني الحماسي كان يلامس مشاعر المظلومين من الاحتلال والهيمنة الغربية، في ظل الضعف بالوعي الشرعي والسياسي عند العامة مما جعلهم يخلطون بين الجهاد الشرعي والعنف غير المنضبط. ومما ساهم في تظليل كثير من عامة المسلمين تركيز الإعلام الغربي على صورة بن لادن كرمز إسلامي عالمي، مما رسّخ فكرة أنه يمثل الإسلام عند أعدائه وأتباعه على حد سواء، لكن أفعاله ونهجه كشفت أنه خالف أصول الجهاد الشرعي وأحكامه، وجرّ على الأمة ويلات عظيمة، لذا كان التباس صورته عند العامة نتاجاً لاستخدامه شعارات دينية صادقة المضمون لكن مزيفة التطبيق.
إذاً هل كان أسامة بن لادن من الخوارج؟
الخوارج في التاريخ الإسلامي هم فرقة نشأت في صدر الإسلام وتميزت بسمات عقدية وفكرية أهمها: التكفير بالذنوب والخروج على الحاكم المسلم واستحلال دماء المسلمين. ومع تطور الحركات المتشددة في العصر الحديث عاد النقاش الفقهي والفكري حول ما إذا كانت بعض التيارات وعلى رأسها تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن تمثل امتداداً للفكر الخارجي أم مجرد تيار جهادي سياسي معاصر.
السمات الفكرية للخوارج ترى بأن المسلم إذا ارتكب كبيرة خرج من الإسلام، وإذا خالف الحاكم الشرع وجب الخروج عليه، وقتل المخالفين وتوسيع دائرة العدو والأخذ بظواهر النصوص دون مقاصدها.
أوجه الشبه بين بن لادن والخوارج حيث كان يرى بن لادن بأن الحكام العرب عملاء أو خونة، ودعا إلى إسقاط بعضهم، مما يقارب موقف الخوارج من الحكام. وركّز تكفيره على الأنظمة المتحالفة مع أميركا، كما أجاز ضرب المدنيين في أميركا والغرب بحجة المعاملة بالمثل والتترس، وهو اجتهاد أثار جدلاً فقهياً كبيراً، ورآه كثير من علماء المسلمين من سمات الخوارج المعاصرين، واستباحة الدماء بغير ضوابط فقهية واضحة، وتكفير الحكومات الإسلامية بحجة الموالاة للكفار، وتبني منهج العنف المسلح كطريق وحيد للتغيير.
إن تجارب العقود الماضية أثبتت أن تبني فكر التطرف والعنف لا يجلب إلا الخراب والتدخلات الأجنبية وتراجع التنمية، ومجتمعاتنا ليست بحاجة إلى بن لادن آخر، بل إلى نماذج إصلاحية وبنّاءة تستلهم قيم الإسلام الوسطية، بحاجة إلى عقول تبني لا تهدم، وأيادٍ تعمر لا تدمر، وقلوب مخلصة تحفظ الدين في صورته النقية الرحيمة، فديننا الحنيف لم يأت ليُستباح به الدم، بل جاء ليصون الكرامة الإنسانية ويقيم العدل ويرسخ الأمن والاستقرار.
اليوم نمر بمنعطف حرج تتأجج فيه صراعات جيوسياسية وتحديات فكرية وسياسية واجتماعية تتطلب يقظة وطنية ومسؤولية مجتمعية والتمسك بالقيم الدينية والوطنية والاعتزاز بالمنجزات التي تحققت، والتضامن الكامل مع القيادة الحكيمة التي تشكل الضمانة الأفضل لاستقرار المجتمع واستمرارية نهجه التنموي. وفي هذا الإطار يجب أن نكون حازمين في مواجهة أي امتدادات للخوارج أو التيارات المتطرفة التي تسعى لتشويه صورة الإسلام وزعزعة الأمن واستباحة دماء المسلمين؛ فالوقاية الفكرية واللحمة الوطنية وتعزيز قيم المواطنة والولاء والبراء لولاة الأمر ونبذ التطرف والغلو والعمل الأمني المتوازن، كلها أدوات أساسية لحماية المجتمع والحفاظ على تماسكه وصون سيادته ونمائه.


