: آخر تحديث
تفوّق غير حاسم وتوازنات معقدة:

المشهد السياسي العراقي بعد الانتخابات

3
2
2

أسفرت الانتخابات البرلمانية العراقية التي جرت في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2025 عن مشهد سياسي مُعقد وغير حاسم، مُعيداً إنتاج ديناميكيات ما بعد الانتخابات التي اعتاد عليها العراق منذ عام 2003، حيث تتطلب العملية السياسية مفاوضات مطولة لتشكيل الكتلة الأكبر والحكومة الجديدة. وبالرغم من نسبة المشاركة التي تجاوزت 56 بالمئة، وهي نسبة أعلى مما كان متوقعاً وفق بعض التقديرات، إلا أن النتائج الأولية لم تمنح أي طرف أغلبية مطلقة، مما يضع البلاد أمام اختبار جديد يتطلب قدرة عالية على التوافق وتجاوز الخلافات.

أولاً: النتائج الأولية — تفوق غير حاسم
تشير النتائج الأولية إلى تصدر تحالف الإعمار والتنمية بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني للسباق الانتخابي في محافظات رئيسية، أبرزها بغداد. هذا التفوق يعكس مزيجاً من الأداء الحكومي المستقر نسبياً، وقدرة السوداني على الحفاظ على توازن هش داخل الإطار التنسيقي، إضافة إلى ضعف المنافسة من التيار الصدري الذي استمر في مقاطعة الانتخابات.

الساحة الشيعية
عزّز الإطار التنسيقي موقعه كقوة شيعية مهيمنة داخل البرلمان الجديد. إلا أن قيادة السوداني للتحالف الأكبر لا تعني بالضرورة عودته لرئاسة الوزراء؛ فالتجربة العراقية أثبتت أن رئاسة الوزراء تُحسم غالباً عبر التوافقات السياسية التي تلي إعلان النتائج النهائية أكثر من اعتمادها على الأرقام الأولية.

في السياسة العراقية بعد 2003 لم يكن الفوز بعدد المقاعد يعني بالضرورة تشكيل الحكومة، فالحسم الحقيقي كان دائماً يجري في مرحلة ما بعد إعلان النتائج، حيث تتداخل التحالفات والتوافقات لتُنتج الكتلة الأكبر التي تختار رئيس الوزراء. فمثلاً في انتخابات 2010 تقدمت قائمة إياد علاوي، لكن نوري المالكي تمكن من جمع تحالفات واسعة مكّنته من الاحتفاظ برئاسة الوزراء. وفي 2014، وبالرغم من أن المالكي حصل على أعلى الأصوات ضمن دولة القانون، إلا أن التوافقات داخل البيت الشيعي دفعت باتجاه اختيار حيدر العبادي بدلاً عنه. أما انتخابات 2018 فقد شهدت تصدر تحالف سائرون، لكن اختيار عادل عبد المهدي لرئاسة الوزراء جاء نتيجة لتفاهمات مع تحالفات أخرى، لا عبر الفائز الأول وحده. وفي 2021، وبالرغم من أن التيار الصدري كان الكتلة الأكبر، إلا أن الخلافات السياسية وظهور الثلث المعطل منعتهم من تشكيل الحكومة، لتنتهي العملية بحكومة محمد شياع السوداني إثر توافقات داخل الإطار التنسيقي بعد انسحاب الصدريين من البرلمان. لذلك، فإن الفوز الانتخابي في العراق يمنح موقعاً متقدماً، لكنه لا يحسم رئاسة الوزراء، لأن التحالفات اللاحقة هي التي تصنع الكتلة الأكبر وتقرر هوية رئيس الحكومة.

القوى السنية
حافظت القوى السنية التقليدية على نفوذها، حيث تصدر حزب تقدم بزعامة محمد الحلبوسي المشهد في الأنبار وصلاح الدين، متفوقاً على تحالف عزم وبقية التكتلات السنية. ومن المتوقع أن تمتلك الكتل السنية وزناً مهماً في مفاوضات تشكيل الحكومة.

ذكرتُ أن من المتوقع أن تمتلك الكتل السنية وزناً مهماً في مفاوضات تشكيل الحكومة اعتماداً على ثلاثة عوامل أساسية:

أولاً: توازن القوى داخل البرلمان
الكتل السنية، خصوصاً تقدم، حصلت على عدد مقاعد يمنحها دور بيضة القبان بين الكتل الشيعية والكردية، ما يجعل التحالف معها عاملاً حاسماً لأي طرف يريد تشكيل الكتلة الأكبر.

ثانياً: وحدة القرار النسبي داخل المعسكر السني
رغم وجود منافسة بين تقدم وعزم، فإن القوى السنية غالباً ما تتجه إلى التفاهم فيما بينها عند مرحلة المفاوضات، ما يزيد من وزنها التفاوضي مقارنة بالكتل المنقسمة داخلياً.

ثالثاً: حاجة القوى الأخرى للدعم السني
التفاهم مع الكتل السنية أصبح شرطاً عملياً لاستكمال أي تحالف حكومي، سواء من جانب القوى الشيعية أو الكردية، بسبب أهمية تمثيل المحافظات الغربية واستقرار المعادلة السياسية.

القوى الكردية
استمر المشهد الكردي على ما هو عليه تقريباً، حيث تصدر الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل ودهوك، بينما حافظ الاتحاد الوطني على قوته في السليمانية وكركوك. وسيكون للكرد دور أساسي في حسم شكل الكتلة الأكبر.

ذكرتُ أن للكرد دوراً أساسياً في حسم شكل الكتلة الأكبر اعتماداً على ثلاث معطيات واضحة في السياسة العراقية:

1. ثبات الوزن البرلماني الكردي.
الكتل الكردية تمتلك عدداً ثابتاً ومؤثراً من المقاعد يجعلها شريكاً لا يمكن تجاوزه في أي تحالف حكومي.

2. الانقسام داخل البيت الشيعي.
عندما لا تتمكن القوى الشيعية من تشكيل كتلة أكبر بمفردها، يصبح التحالف مع أحد الطرفين (السنة أو الكرد) ضرورياً.

3. امتلاكهم ملفات تفاوضية مركزية.
قضايا مثل الموازنة والنفط والغاز وكركوك تجعل القوى الشيعية والسنية بحاجة إلى توافقات مع أربيل والسليمانية.

ثالثاً: تحديات تشكيل الحكومة — معركة الثلث المعطل
تدخل العملية السياسية الآن مرحلتها الأكثر حساسية: تشكيل الحكومة. ومن المتوقع أن تتجاوز المفاوضات المهل الدستورية، إذ يتنافس اللاعبون على من سيقود الكتلة الأكبر داخل البرلمان.

أبرز العقبات
ظهور الثلث المعطل: 
القدرة على منع انتخاب رئيس الجمهورية أو تمرير القرارات المصيرية، ما قد يؤدي إلى تعطيل العملية السياسية لأشهر.

التأثيرات الإقليمية: لا تزال الساحة العراقية جزءاً من لعبة النفوذ بين القوى الإقليمية، خصوصاً مع تصاعد التوترات في المنطقة. والمقصود بالقوى الإقليمية هنا
إيران وتركيا ودول الخليج (السعودية وقطر والإمارات).

أما التوترات فهي التصعيد الإيراني – الأميركي، التوتر التركي – الكردي، التنافس الخليجي – الإيراني، إضافة إلى انعكاسات الحرب في غزة والأزمات الإقليمية.

تراجع المستقلين: النظام الانتخابي الجديد قلّص قدرة القوى الناشئة على إحداث تغيير جوهري.

أزمة الثقة الشعبية: بالرغم من ارتفاع نسبي في المشاركة، إلا أن فجوة الثقة لا تزال عميقة بسبب تكرار التجارب السابقة دون نتائج ملموسة.

رابعاً: قراءة في عمق المشهد — استمرار التعقيد
تؤكد المعطيات أن العراق لا يزال أمام مشهد تحكمه التوازنات الطائفية والعرقية والحزبية، وأن غياب مشروع سياسي جامع يجعل إنتاج حكومة مستقرة أمراً بالغ الصعوبة.

خامساً: استقرار مُدار أم إصلاح حقيقي؟
تشير المؤشرات إلى مرحلة جديدة من الاستقرار المُدار، أي الاستقرار الناتج عن صفقات سياسية أكثر من كونه نتاج إصلاح جذري. وهنا يبرز تحدي رئيس الوزراء المقبل في تحقيق توازن بين التحالفات ومطالب الشارع.

يبقى السؤال الجوهري: هل ستقود النتائج إلى إعادة إنتاج النظام القائم، أم ستفتح الباب أمام إصلاح تدريجي يكسر حلقة الفساد والانسداد السياسي؟

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.