موسى بهبهاني
من أهم أنماط التراث التي تتميّز بها الكويت هو - الديوانية -التي تعد مجلساً يجمع أهل الحي والأصدقاء والعائلة، فهو منتدى تربوي لجميع أطياف المجتمع، وتظهر في الديوانية مظاهر التلاحم والمحبة والتعاون والتراص، يساعد كل منهم الآخر فتتحقق مظاهر الأسرة الواحدة.
ففي السابق كان الآباء والأبناء يتشاركون في خدمة روّاد الديوانية، بل تعتبر الديوانية مدرسة عملية لتربية الأبناء تربية حسنة، خصوصاً عندما يقوم الأب مع الأبناء بخدمة روّاد الديوانية.
في البداية يقومون باستقبال الضيوف والترحيب بهم بكل محبة واحترام، ومن ثم القيام بواجب الضيافة من تقديم القهوة والشاي، والحلويات والفاكهة وتليها وجبة العشاء، وخلال ذلك تدور الأحاديث عن الأمور الاجتماعية والمحلية والعالمية، وبالفعل هي مدرسة تربي وتعلم الأبناء منذ الصغر على الأخلاق والاحترام والتقدير للكبار، ويزداد الكبار فيها خبرة ودراية في شؤون الحياة.
فالديوانيات الكويتية تراث متجدد عبر الأجيال، فهي بدأت منذ 300 عام بأعداد محدودة، والآن انتشرت بشكل كبير لتغطي مختلف المناطق.
وهنا أنقل لكم تجربتي مع والدي، رحمه الله:
كان الوالد ذا شخصية اجتماعية مميزة، يتواصل مع الجميع، كان محباً للجميع ولا يحب الانطواء، وكان ديوانه عامراً بتواجد جميع أطياف المجتمع. فكان روّاده من العوائل الكريمة:
الجوهر، الجلاهمة، النهام، العجيل، عبدالغفور، الحجرف، الفرج، مختار، النجم، المحمد علي، الحمر، الفقعان، معرفي، اليوسفي ،الصقر، غلوم، بوحيمد، المبارك، المطوع، السليم ، العوضي، الموسوي، سويد، خضير،...
أتذكّر أنني عندما كنت طالباً في المرحلة المتوسطة وكنت في عمر الحادي عشر، كان والدي يقوم بتكليفي لأقوم بتجهيز الديوانية لاستقبال الرواد .
وكنت أرغب في أثناء ذلك بأن أكون مع أصدقائي في الحي، إلا أنه كان لا يسمح لي بذلك، فبعد صلاة المغرب تفتح الديوانية أبوابها، فكان واجباً أن أكون متواجداً معه في هذه اللحظة وكنت أشعر حينها بان أبي كان يعاقبني!
إلا أنني أدركت لاحقاً بأنه كان يغرس فيني الجانب الاجتماعي والتربوي، فكان يحثني على التواجد بالديوانية وخدمة روادها، واحترام الكبار في السن وتقبيل جباهم، والإنصات وعدم المقاطعة أثناء تكلم الكبار، وألا أشارك في النقاش مع الكبار إلا إذا طلب مني ذلك .
إذاً، بحق الديوانية، ولا تزال، هي مظهر من مظاهر العلاقات الاجتماعية والتكافل الاجتماعي، تعلم الصغير والكبير، ويحترمها الجميع.
وكانت الديوانية في ذلك الوقت بمثابة الأم التي تحتضن أبناءها، وكان التواصل فيها بمثابة واجب اجتماعي ووطني، ويرتادها أبناء الأسرة الحاكمة وكذلك عامة الشعب، فيلتقي فيها الحاكم بالمحكومين، وهذا ما يميز الديوانية الكويتية عن بقية الدول الأخرى.
(أبناء الأسرة والشعب)
ومن اللافت للنظر أن زيارة أبناء الأسرة الحاكمة لم تكن زيارة اعتيادية عابرة، إنما كان الهدف منها الالتقاء والتواصل والتلاحم مع أفراد الشعب، والخصلة المميزة لديهم حسن المعشر والبشاشة والتواضع، يتواصلون مع أرباب الديوانيات في مختلف محافظات الكويت، وكذلك يستقبلون الرواد في ديوانياتهم الأسبوعية بكل ترحيب وحفاوة، ولذلك أحبوا الشعب فأحبهم.
ونسال المولى عز وجل بأن يدوم علينا هذا التواصل والمحبة والتآلف بين جميع شرائح المجتمع، فإن ذلك يعمق الأمن والاستقرار والأمان في دولتنا الحبيبة الكويت.
والديوانيات الكويتية الآن تستقطب السفراء والضيوف كملتقيات اجتماعية وثقافية، حيث تمثل هذه الديوانيات مساحة للقاءات وتبادل الأحاديث بين الكويتيين والشخصيات الدبلوماسية والاجتماعية البارزة في الوطن.
وتكون هذه اللقاءات فرصة لتعزيز العلاقات الدبلوماسية، وتبادل وجهات النظر، وبناء الجسور الثقافية بين مختلف الجنسيات، ما يثري المشهد الاجتماعي والسياسي في الكويت.
ختاماً
الدواوين عُرِفت في مجتمعنا منذ القدم فهي ملتقى شعبي ولها أثرها في الواقع الاجتماعي والسياسي.
وهناك دواوين متخصصة سواء بالقضايا الاجتماعية والسياسية والمحلية والرياضية والفنية، بالإضافة إلى الدواوين النسائية، وكذلك توجد الدواوين الحرفية والمهنية كديوان الصيادين والمهندسين والأكاديميين والمفكرين وغيرهم.
لا يسعدنا إلا أن ندعو المولى عز وجل بأن يحفظ الكويت وأهلها والمقيمين الشرفاء على أرضها من كل سوء، وتبقى الكويت جوهرة الخليج، والحمد لله رب العالمين.

