منذ فولتير في «مقال في أخلاق الأمم وروحها» (1756) وصولًا إلى مارك بلوخ في «الاعتذار للتاريخ» (1949) – الذي عدّ الأنكرونيزم أحد أخطر الأخطاء التي يقع فيها المؤرخ – ظلّ المفكرون والمؤرخون يحذّرون من إسقاط الحاضر على الماضي. وبالرغم من وضوح هذا التحذير، ما زال بعض المثقفين وحديثي التغيّرات الفكرية يتوهّمون أنهم في ذروة التقدّم، حين يمارسون نكوصًا معرفيًا بإلغاء التاريخ الذي كوَّن وعيهم نفسه. إنهم يقرؤون الماضي بمنظور الحاضر، ويخضعون الشخصيات والأحداث لتقييمٍ خارج سياقها الزمني، متجاهلين أنّ منظوماتنا الفكرية والأخلاقية الراهنة لم تتكوّن دفعة واحدة، بل جاءت عبر مسارٍ تراكمي طويل صاغته التحولات الفكرية والعلمية والاجتماعية.
لهذا فإنّ الإنصاف يقتضي ألّا نحاكم أرسطو أو ابن رشد أو ديكارت أو كانط بمعايير العدالة والمساواة بصيغتها الحديثة؛ فإسهاماتهم كانت ابنةَ زمانها وقضاياه المعقدة، لكنها مثّلت في عصرها قفزاتٍ نوعية أسّست لوعيٍ جديد وأسهمت في بناء ركائز الفكر المعاصر.
ولا يتوقف هذا المنطق عند دائرة الفلاسفة والعلماء، بل يمتد إلى التاريخ السياسي والعسكري. فالمأمون – على ما يُؤخذ عليه – أطلق عبر «بيت الحكمة» حركة ترجمة واسعة أسهمت في نقل التراث اليوناني وترسيخ نزعة عقلانية أثّرت في مسار الحضارة العربية. وخالد بن الوليد لم يكن قائدًا عسكريًا عابرًا، بل شخصيةً محورية غيّرت موازين القوى ومهّدت لقيام حضارة لاحقة. وفي الغرب، وضع جورج واشنطن الأسس الأولى للجمهورية الأميركية، وقاد ونستون تشرشل بريطانيا في أحلك لحظات الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من ما يُؤخذ على كلٍّ منهم بمقاييس اليوم، تبقى أدوارهم محطاتٍ مفصلية في تشكّل الوعي السياسي والإنساني كما نعرفه اليوم.
وفي الحقل الثقافي والفني، لا يُفهم الإبداع خارج سياقه التاريخي. فشكسبير قدّم في بعض مسرحياته تصوّراتٍ نمطية تجاه المرأة والأقليات، لكنها كانت انعكاسًا لذهنية عصره لا موقفًا شخصيًا. ومع ذلك ظلّ أثره ممتدًا في تطوّر الدراما واللغة الإنجليزية حتى اليوم. وكذلك آرثر رامبو، الذي يُنتقد بسبب حياته المضطربة، بينما كان في «موسم في الجحيم» يفتح مسارًا جديدًا للتجريب اللغوي، ممهدًا لولادة الحداثة الشعرية على نحوٍ لم يكن ممكنًا قبل القرن التاسع عشر. وفي الثقافة العربية، صنع الجاحظ من البيان أفقًا للنقد والتفكير، وجعل أبو تمام من الصورة الشعرية مدخلًا لفتح معنى جديد، لا زخرفة لفظية.
إنّ التعامل مع التراث يتطلب قراءةً نقدية متوازنة تراعي سياقاته الاجتماعية والفكرية دون أن تُخضعه لمعاييرنا أو ترفعه إلى مقام القداسة. فكل تجربة فكرية أو سياسية جاءت استجابةً لأسئلة زمانها، لا لمعاييرنا نحن. والإنصاف الفكري يقتضي قياس قيمة الفكرة بقدرتها على دفع الوعي خطوةً إلى الأمام، لا بمدى توافقها مع ذائقتنا المعاصرة. فالتاريخ ليس خطًا صاعدًا من الانتصارات، بل مسارٌ متعرّج تشكّل من تفاعل النجاحات مع الإخفاقات، وكان لكل خطأٍ فيه دورٌ في توسيع مدارك العقل الإنساني.
وإسقاط الحاضر على الماضي لا يشوّه فهم التاريخ فحسب، بل ينعكس على طبيعة الحوار الحضاري اليوم. ففي زمن الاستقطاب وثقافة الإلغاء، تقود القراءات المتعجّلة إلى طمس إسهامات شخصياتٍ أثرت الحضارة الإنسانية لأنها لا تتطابق مع قيم الحاضر. وبذلك نفقد القدرة على رؤية التاريخ باعتباره رصيدًا معرفيًا يمدّ الحاضر بالحكمة والخبرة.
ولا يعني الإنصاف التاريخي تبرئة الجميع؛ فثمة قادة وحركات تركت آثارًا كارثية على مجتمعاتها حين أعادت إنتاج الاستبداد تحت شعاراتٍ خلاصية، كما فعلت التيارات الأصولية والشمولية في القرنين العشرين والحادي والعشرين. غير أنّ خطأها لم يكن في انتمائها إلى الماضي، بل في محاولتها استدعاءه قسرًا إلى زمنٍ لا يشبهه.
إنّ قراءة التاريخ قراءةً نقدية لا تهدف إلى محاكمة الشخصيات التاريخية، بل إلى فهم السياقات التي وُلدت فيها أفعالها، وكيف أسهمت في تطوّر الفكر الإنساني. فالمفكرون والقادة والمبدعون لم يكونوا قديسين ولا شياطين، بل أبناء بيئاتهم وزمانهم. وحين يُقرأ الماضي بميزان وعيه لا بميزاننا، يتحوّل من عبءٍ يقيّد الحاضر إلى رصيدٍ معرفي يُنير المستقبل.


