صيغة الشمري
كثيراً ما نسمع عن العزلة الاجتماعية، ولكن لا ندري ماهي أسبابها الحقيقية رغم اتساع المدن وازدحام الشوارع والمراكز التجارية والمقاهي، فهذه العزلة تتصاعد بشكل كبير في المجتمعات الحديثة، ما جعلها تمثل ظاهرة لافتة، في ظل التناقض البائن، فكيف لإنسان أن يعيش بين ملايين الناس ويشعر في الوقت ذاته بالوحدة؟.
وعلى ما يبدو أن التحولات العميقة في نمط الحياة بالمدن الكبرى تسبب في ما يسمى «العزلة الاجتماعية»، فإيقاع المدينة السريع، وضغط العمل، والاعتماد على الوسائط الرقمية بدلاً من التفاعل المباشر، جعل الكثيرين يعيشون حياة ظاهرها مزدحم، وباطنها خالٍ من التواصل الحقيقي، حيث أصبحت اللقاءات عابرة، والعلاقات سطحية، ما يفاقم شعور الفرد بالانفصال عن محيطه تماماً.
وعلماء الاجتماع فسروا ذلك بأن الإنسان في المدن يعاني من تآكل الروابط التقليدية التي كانت تؤمن له شبكة دعم اجتماعي بشكل مستمر، ضاربين المثل بمجتمعات القرى الصغيرة، التي يفرض فيها القرب الجغرافي وشبكات القرابة تواصلاً غير منقطع، بينما في المدن الكبرى، تتيح الحرية الفردية المتسعة للشخص العيش بمعزل عن الآخرين، لكنها في الوقت ذاته تعمق فجوة الوحدة، معتبرين أن هذه المفارقة تجعل بعض الأفراد، رغم جلوسهم في مقهى مزدحم، يشعرون أنهم غرباء لا ينتمون إلى من حولهم.
وهنا بالطبع يبدو أثر التكنولوجيا ظاهراً، فهي تلعب دوراً مزدوجاً في ظاهرة «العزلة الاجتماعية»؛ إذ تتيح تواصلاً سريعاً من خلف الشاشات، غير أنها تحرم الشخص من دفء اللقاء المباشر وتفاصيله الدقيقة. وبالتالي يمكن القول إن تفضيل المحادثات الرقمية على الزيارات الواقعية أدى إلى تراجع التفاعل الوجداني، وضاعف من الشعور بالعزلة لدى الكثيرين.
وللعزلة الاجتماعية بالتأكيد تأثير على الصحة النفسية، فهي تزيد معدلات القلق والاكتئاب، وتضعف الانتماء المجتمعي، وتحد من الإبداع الذي يحتاج إلى تفاعل وتبادل أفكار مع الآخرين، وربما تسهم - على المدى الطويل - في خلق مجتمع حضري متفكك، يعيش أفراده في جزر معزولة رغم قربهم الجغرافي.
إن معالجة العزلة تتطلب إعادة الاعتبار للتواصل الإنساني، عبر دفع الشخص لنفسه بحضور المبادرات المجتمعية والثقافية التي تعزز اللقاءات المباشرة، وتوفر فضاءات تشجع على التفاعل مثل الحدائق العامة والمراكز الثقافية، فضلاً عن ممارسة العمل التطوعي والمبادرات الشبابية التي تسهم في كسر دائرة العزلة وخلق جسور تواصل عميقة بين الأفراد.