: آخر تحديث

ليوناردو دافنشي: عبقري النهضة الذي كتب حكاية عن موس الحلاقة

1
1
1

ليوناردو دافنشي (1452–1519) أحد أعظم رموز عصر النهضة وأكثرهم شمولية في المعرفة والإبداع. جمع بين الرسم والنحت والهندسة والموسيقى والعلوم والميكانيكا، وكان مراقبًا للطبيعة ومحللًا بارعًا لسلوك الإنسان والمجتمع. لوحاته الخالدة مثل الموناليزا والعشاء الأخير أصبحت أيقونات في تاريخ الفن، لكن عبقريته تجاوزت حدود اللوحة والتصميم. فقد خلّف دفاتر ضخمة تضم رسوماته وملاحظاته العلمية وتجارب ميكانيكية وتأملات فلسفية، بل وحكايات رمزية قصيرة ذات مغزى أخلاقي.

هذه الحكايات، التي لم تُنشر في حياته، كانت جزءًا من دفاتره المعروفة باسم Codex، وأهمها Codex Atlanticus المحفوظ في مكتبة أمبروسيانا بميلانو. يضم هذا المخطوط مزيجًا من الرسوم والملاحظات والأمثال والحكايات الأخلاقية. من بينها حكاية موس الحلاقة، التي يُرجح أنها كُتبت بين 1480 و1519، ربما في فلورنسا أو ميلانو، في الفترة التي كان دافنشي يدون فيها خواطره الأخلاقية والفلسفية.

النص الأصلي للحكاية محفوظ في الترجمة الإنجليزية التي أعدها جان بول ريختر ضمن كتاب The Notebooks of Leonardo da Vinci (الحكاية رقم 1272) تحت فصل بعنوان Fables on lifeless objects. كما ظهرت بصيغة مختصرة بالألمانية تحت عنوان Ruckzuck – Die schnellsten Geschichten der Welt (أروي بسرعة – أسرع القصص في العالم) في كتاب حرره دانييل كامبا، بعد أن اختارتها إيما ديكنز في عملها التحريري Das da Vinci-Universum – Die Notizbücher des Leonardo.

وتشير الدراسات إلى أن القصة وُجدت على بعض فوليوهات Codex Atlanticus مثل 66 و201، وربما أيضًا على 477v، ضمن مجموعة حكايات رمزية كتبها دافنشي في تسعينيات القرن الخامس عشر.

موس الحلاقة 
ليوناردو دافنشي

"في أحد الأيام الجميلة، أُخرج موس الحلاقة من غمده، ووُضع على حافة النافذة. هناك أبصر الشمس وهي تنعكس على جسده، فتألق في ضياء مبهر. شعر بزهو عظيم، وشكر في نفسه الصنعة التي منحته هذا البريق، ثم قال:
لن أعود أبدًا إلى ذلك الدكان الذي خرجت منه!
حاشا للآلهة أن أسمح لجمالي اللامع أن يذبل!
يا للجنون، أن أظل أحلق ذقون الفلاحين الملطخة بالصابون، فأهدر نفسي في عمل كهذا! أهذا الجسد البهي خُلق لهذا؟ حاشا لله!
سأختبئ في ركن هادئ بعيد، وأقضي عمري هناك في سكون وصفاء.
وفعل كما قال.
مضى زمن وهو في عزلته، حتى جاء يوم أُخرج فيه إلى الهواء من جديد. لكن يا للفزع! لقد صار أشبه بمنشار قديم صدئ، ولم تعد الشمس تتلألأ على سطحه الباهت. عبثًا جاءه الندم، وعبثًا علت شكواه:
كم كان خيرًا لي لو قضيت وقتي أُعمل شفرتي عند الحلاق! يا حسرتاه على نصلي الحاد، وجسدي اللامع! لقد أكلني هذا الصدأ الخبيث!
وهكذا، كما يحدث مع من يتركون العمل لينغمسوا في الكسل، فقد خسر الموس حدته، كما تخسر النفس مهاراتها حين تُهمل، فيفسدها صدأ الجهل.

ليست الموسى أو شفرة الحلاقة مجرد أداة جامدة، بل كائن له صوت وغطرسة ومصير، يخوض رحلة كاملة من الزهو إلى السقوط. هذا التشخيص للجماد يمنح النص بعدًا رمزيًا عميقًا؛ فالشفرة ترمز إلى الموهبة أو العقل أو المهارة، التي تزدهر بالعمل المستمر وتصدأ بالكسل. انعكاس الشمس على نصله لحظة إدراك لقيمته، لكنه ينقلب إلى غرور يقوده إلى العزلة، فيأتي الصدأ عقوبة طبيعية ناتجة عن الإهمال.

هذا النوع من السرد، حيث يُعطى الجماد صوتًا ووعيًا، نجده لاحقًا في نصوص وفي قصص بورخيس التي تحيي الكتب والمتاهات ككيانات واعية، وفي أعمال إيتالو كالفينو مثل المدن غير المرئية. ونراه أيضًا في حكايات الأطفال كالمصباح العجوز لهانس كريستيان أندرسن، وفي السينما المعاصرة مثل Toy Story، حيث تُروى القصة من منظور الأشياء. يسمّى هذا الأسلوب بـ "التشخيص" أو "الأنسنة"، أما حين يتحول الشيء إلى راوٍ يتحدث بضمير المتكلم فيسمى "سرد الأشياء" أو "الرواية من منظور غير بشري". قيمته لا تقتصر على إضفاء الحياة على الجماد، بل تمنحه حرية أكبر في قول الحقيقة وتمرير الحكمة دون مباشرة.

في فلسفة دافنشي، المعرفة والحرفة لا تُصان إلا بالعمل المستمر. كما قال: "الحديد يصدأ من قلة الاستعمال، والمياه الراكدة تفقد نقاءها." الحكاية إذن وصية للفنان والمفكر: لا تخشَ أن تُستهلك مهارتك في العمل، فالاستعمال هو ما يحفظها. الحكمة ذاتها نجدها في التراث العربي: "مَن جَمَدَ جَمُد"، "العقل كالماء، إن ركد أسن". كلها تؤكد أن القوة والمهارة لا تُصان إلا بالفعل الدائم.

سعى ليوناردو دافنشي طوال حياته إلى الكمال في المعرفة والإبداع، فكان مثالاً للعبقرية الكونية التي جمعت بين الفن والعلم والتكنولوجيا. تجلت نزعة الكمال لديه في دراساته الدقيقة للطبيعة والإنسان، وفي أعماله التي مزجت بين الرياضيات والهندسة والجمال، مثل الرجل الفيتروفي الذي جسّد بحثه عن التناسق المثالي في الجسد البشري. غير أن هذا السعي المحموم نحو الكمال، إلى جانب فضوله اللامحدود وتعدد اهتماماته، جعله يترك كثيراً من مشاريعه غير مكتملة. ومع ذلك، فإن أثره ظل باهراً، إذ تجاوز حدود عصره بفكره ورؤاه؛ فحتى مشاريعه الناقصة تكشف عن عمق معرفي وبصيرة استشرافية نادرة، جعلت من إرثه مثالاً خالداً على أن الكمال الحقيقي قد يكمن في السعي ذاته لا في الاكتمال.

دافنشي ونارديني: النص الأصلي والنسخة المعدلة

ثمة ما يجدر الاشارة إليه بخصوص تصرف بعض دور النشر التي نشرت نسخ من تحقيق نارديني، بنية الجذب والتزويق لأغراض التسويق! فمعظم حكايات دافنشي الأصلية تنشأ من جمل قصيرة وأفكار متفرقة، غالبًا رمزية وفلسفية، تركز على الطبيعة وسلوك الكائنات باقتضاب شديد، تاركة مساحة واسعة لتأمل القارئ. لكن بعض الباحثين مثل بروني نارديني (1921–1990) جمعوا هذه النصوص ووسعوا سردها، مضيفين خلفيات للشخصيات ومشاهد وحوارات جديدة، ما جعلها أقرب إلى قصص مكتملة. فمثلا نص دافنشي الأصلي من خرافة الحمار على الجليد هو:
"عندما نام الحمار على السطح الجليدي لبحيرة عميقة، ذاب الجليد من حرارة جسده. ولشدة حزنه، استيقظ الحمار تحت الماء وغرق في الحال."

أما في نسخة نارديني فقد تضاعف طول النص ثلاث مرات تقريبًا، وأضاف خلفيات تخص الحمار، وصفًا للطقس، وحوارًا مع عصفور صغير ينبهه للخطر، ثم شرح الدرس الأخلاقي بوضوح. النص الأصلي يركز على الطبيعة وقوانينها: حرارة الجسد تذيب الجليد فيغرق الحمار لجهله بالقانون الطبيعي. أما نسخة نارديني فتميل إلى الحكاية الخيالية المفسَّرة، لكنها تفقد بساطة النص الأصلي وعمقه الرمزي.
خلاصة

قد تبدو حكاية شفرة الحلاقة طُرفة عن أداة مغرورة، لكنها تحمل درسًا خالدًا: ما لا يُستعمل يصدأ. هنا يتجلى دافنشي، كما في لوحاته ومخطوطاته، حكيمًا لا رسامًا فقط، يذكّر كل صاحب موهبة بأن العمل سر البقاء، وأن المهارة تُصان بالفعل لا بالراحة. ومن بين دفاتر النهضة المليئة بالرسوم الهندسية والاختراعات، تخرج إلينا هذه الحكاية القصيرة لتقول: من يستريح يصدأ، ومن يهمل موهبته يخسرها بلا رجعة.

 

المراجع:
‎1.‎ Richter, J.P. The Notebooks of Leonardo da Vinci, No. 1272, Fables on lifeless objects..
‎2.‎ Kampa, D. (Ed.). (2021). Ruckzuck – Die schnellsten Geschichten der Welt. Zürich: Diogenes. p. 102.
.3.‎ Emma Dickens (ed.), Das da Vinci-Universum – Die Notizbücher des Leonardo, Ullstein Verlag.
‎4.‎ Codex Atlanticus, Biblioteca Ambrosiana, Milano – Folios 66, 201, 477v (estimates from modern studies, including Leonardo’s Fables, Brill 2023).    

                                                                                                                                 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات