: آخر تحديث
إبداع

لغة الدموع الصامتة

1
2
2

ما سرّ هذا الحزن الذي يُهاجمنا بلا استئذان، نحن المغتربين، ويجدُ طريقه إلى مآقينا فيفيضُ دموعاً خجلى، كأنها لغة القلب حين يَعجز اللسان؟

سؤال يطرق الذاكرة كلّما أطلّ المساء على غربةٍ موحشة، فيوقظ فينا ما نظنّه مات من الحنين، وما دفنّاه تحت رماد الصبر والاعتياد. ومع ذلك، يظلّ الحزن سيّد الموقف، يطغى على ما سواه من جمالٍ وذكرياتٍ مؤنسة. إنّه الحزن بكل ظلاله، بدموعه التي لا تنضب، وبأحلامه التي لا تكتمل.

نفحات الحزن قاسية، تتسلّل إلى الأعماق كما يتسلّل الهواء إلى الرئتين، فلا فكاك منها، لأنها جزء من نسيجنا الداخلي، مغروسة في أعماق الروح كما تُغرس الجذور في تربةٍ لا تعرف الهجرة.

نحن نحمل أوطاننا فينا، لا على الخرائط. نحمل وجوه أحبّتنا، وأصواتهم، وضحكات زملاء الطفولة، وحكايات الأهل والبيوت والطرقات، وحتى ذلك الحجر الغافل عند عتبة الدار الذي شاركنا صمتنا يوماً، كأنّه هو الآخر يفتقدنا. ومع كلّ ذلك، يظلّ السؤال معلقاً: ما الحلّ لهذا الحزن الذي يسكننا، ويأبى الرحيل؟

قد يكون الحزن جميلاً في بعض تجلّياته، إذ هو الوجه الآخر للفقد، وللوطن حين يتحوّل إلى ذاكرة. فكيف لا يكون جميلاً وهو يجمعنا بأطياف من نحبّ؟ هو مرآة الفراق، نرى فيها أنفسنا معلّقين بين ما كنّا وما صرنا إليه، نستعيد أفراحنا المسروقة، وأوجاعنا المؤجّلة، ونقيس المسافة بين قلبٍ في الغربة ووطنٍ يبتعد كلّ يوم خطوة أخرى في الذاكرة.

كثيرون يسألون: لماذا تفيض كتاباتنا بالحزن؟

نجيب بصمتٍ حائر: لا ندري. ربما لأن الدمع أصدق من القول، ولأن القلوب التي ذاقت الغربة تعرفُ أنّ الحزن ليس اختياراً، بل هو وطنٌ آخر نُجبر على السكن فيه. الحزن ليس طارئاً علينا، بل رفيق طفولتنا وشبابنا وأحلامنا المكسورة، نحمله معنا في المنافي كهويةٍ ثانية لا تحتاج إلى جواز سفر.

كلّ كلمةٍ نسمعها، كلّ أغنيةٍ تمرّ صدفةً على أذنٍ متعبة، تُعيدنا إلى ماضٍ لم يبرح مكانه، إلى وجوهٍ غابت، وأصواتٍ خفتت. ذلك هو سرّ الحزن العميق الذي يسكننا، ويمدّ جذوره في أرواحنا، لأنه ببساطة جزء من إنسانيتنا. نحن كائناتٌ خُلقت لتشعر، ولتتأمل، ولتتذكّر. والذاكرة، حين تفيض، تصير بكاءً صامتاً على هيئة حنين.

وبالرغم من ذلك، يبقى الأمل هناك، عند أول ضوءٍ يلوّح لنا من بعيد. أهلنا الذين ما زالوا في الوطن، يتشبّثون بخيوط الرجاء، لا يلتفتون إلى الأمس، بل يزرعون الغد بالأمنيات. ونحن نشاركهم الدعاء بأن يلتئم الشمل يوماً، وأن تعود الحياة إلى بساطتها الأولى، دون فُرقة ولا وجع.

فربّما يكون الحزن ذاته طريقاً إلى الفرج، إذ لا يُولد الفرح إلا من رحم الألم، ولا يَنضج القلب إلا حين يذوق مرارة الفقد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات