: آخر تحديث

شآبيب المعرفة الأزلية

1
0
1

لم يزل قلبي يرضع رحيق التراب
الناضح من أغصان شجرة التوت
القائمة في صحن الدار المهجورة
وروحي ترفرف فوق قباب قريتي المنسية
في غياهب الأزمان
حيث تتناسخ أطياف الأحباب
وتغرد عصافير الذكريات
بين جوانح أعشاش الحمائم
تحت رذاذ الضوء
قبور أجدادي تنضح ببخور السموات
وعظامهم تضيء فوق قمم الجبال
وقيعان الوديان
تحوم أطياف الملائكة حولها
مرددين:
فلتتبارك الأرواح التي تقف على تخوم الموت
في انتظار بزوغ فجر جديد.

صورة أبي تميمة منسوجة في تلافيف ذاكرتي
كل صباح تتألق في مرايا النجوم
حين تنبجس الشمس من أكمام الفجر.

عندما أرى ظل أمي في مرآة الغيب
أعود طفلا يتأرجح بين يديها
وألملم من بين ضفائرها سنابل الضوء.

تحت الظلال الممتدة من نهر الفرات
إلى أقاصي أفغانستان
أسير مفتوناً بهديل الله على الشطآن
تحت السماء الملطخة بدماء المؤمنين
بدين العقل
على مر الأحقاب والعصور.

أحب أن أكرع ماء زلالا من النبع الثر
لأتمكن من عبور نهر الموت
إلى شاطئ الحياة المترفة
ليبتسم قلبي المخضل بالحزن
ولتنير معبد أفكاري شآبيب المعرفة الأزلية
لأشع كأيقونة النور بين سراديب الغياهب.

كل شيء يبدأ من ذاته
كابتداء الكون من وميض البرق
وزغاريد الرعود
ومن ارتجاجات الزلازل
انشقت أردية السموات
وتشكلت بيضة الأرض
وأفرخت الإنسان
ليمتطي صهوة الأحلام
مفتوناً بجنّة الأوهام
أبدعها المؤمنون الأتقياء المتقشفون
الذين يشيدون على الأرض قلاعاً وحصونا
وسجونا لاتساع جميع المارقين والملحدين
وغداً سيمضون بلا هوادة
وتبقى قبورهم الفارهة ملعنة الأجيال.

سؤال يخطر ببال كل الأبرياء
والسذج
والمجانين
من خلق الله؟

كارتعاش الريح بين أغصان الشجر
وكاغتسال حوريات الجنّة في غدائر الشمس
استدعي طفولتي لنمرح معاً
في حديقة مضمخة بالفراشات
لنقص ناصية الريح
ونحلق في أراجيح السموات
كعصافير تعربد في بيادر الصباح.

ماجدوى الكتابة بماء الذهب على بوابة عشتار؟
لقد وصل البرابرة المؤمنون
سكارى... وماهم بسكارى
حاملين صلواتهم ومطارقهم
وتحت آباطهم كتاب الله
ليحتفلوا بتحطيم تماثيل الثيران المجنحة
وتمزيق المخطوطات الأثرية
وتنجيس مساكن الآلهة
إنهم يتباركون بمقابر الأولياء
ويتلذذون بنكهة الطيور الساقطة من السماء
على موائدهم
وهم مستلقون على أرائك النشوة.

لقد شاخت المآذن الرقطاء
لم تعد تأوي إليها العصافير الغضّة
عند اكتظاظ الهجير
في قلب الصحراء المقفرة
حيث ينيخ على جذع نخلة جرداء
مسيلمة الكذاب... وصحبه الأتقياء
يحيكون عباءة من شجرة الأنساب
ليتلقفوا بها النجوم
قبل أن تسقط في هاوية الأسماء الحسنى
ويمتص الصدى كرياتها الحمراء
وقبل أن يصل الهابطون من سدرة المنتهى
ويلقون القبض على ظلال الأنهار
وأسراب الطيور الصاخبة على غصون الأمطار
لتغمر قلوبهم النيران.

أنا العائد من مجاهل السديم
المنطلق من الفضاء الأزلي
الشارد من هفوات الطفولة
والمتعطش لكل خطيئة لذيذة مقدسة
ولكل نزوة بريئة شاردة
تينع على زغب قلبي
لأحلق مع رفوف الطيور المضرّجة بالعشق
أقف على عتبة الوطن المهلهل
أنثر عليه رمال الشفق
وألقي على كاهله مرثاة الغيب
لينفض عن اهترائه شظايا النوم
وينتفض من بين أصفاد الموت
قبل أن يداهمه صليل السبات.

ما أوحش هذا القادم الملثم من قلب الصحراء
في عينيه شهوات أبابيل النار
ومن خلفة أعمدة غبار تتصاعد في الآفاق
كأرواح الموتى
لا يركن إلا في المقابر والبيادر
يأتيك كالسقر
لا يبقي ولا يذر
يلتهم الأشجار والأنهار والصخور
والأطفال
ويدمر الكنائس والأديار
والآثار
سيدات بابل وآشور
قيثارات مقطوعة الأوتار
ظباء شاردة في أصقاع الأرض
تختبئ في شقوق الصخور
وأخداديد الأرض
فراراً من أنياب الوحوش الضارية
تتضرع  لإلهها الحي القدّوس
كي تنقذها من براثن هذا الأخطبوط الرهيب.

تشرئب عيون المهجرين إلى شرفات الوطن
حاملة في نظراتها شجو الحمام
ولهفة وحنين العصفور الدوري للبيادر
أنا المغروس في رحم أرض العراق
قبل أن يولد الله
أهجّر من أرض آبائي وأجدادي
لأنني أؤمن بارتقاء سلالم النور
العراق الذي يتمرغ اليوم بطقوس الجاهلية الأولى
وتتردد في أرجائه صلوات الثكالى
العراق الذي مات وهو على قيد الحياة
يستمد نضارته من أور وأوروك
فمن أين يأتي المخلص الذي يدحرج الحجر عن قبره
ليحلق في زوبعة البلجة نحو السموات العلى
لتبدأ أجراس الكنائس تقرع من جديد
وبدون انقطاع.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات