كانت الأهوار تتنفس ضبابا كثيفا في تلك الليلة، فيما صوت الأزيز الخفي للقصب والبردى يمتزج بهمهمات الريح السارية، ففي تلك المساحة الغامضة، حيث المتاهات التي يختبئ فيها كل شيء، وحيث الماء والسماء يلتقيان في حزن سرمدي، والمستنقعات التي تمتد كجراح مفتوحة في جسد الأرض، لتنتهي المدن وتبدأ أسرار الطين، ياسين، أو صالح كما صار يدعوه من يعرفه الآن، لم يكن وحده في تلك الليلة، لكن الجماعة الصغيرة التي كان يرافقها والتي حملت السلاح في وجه أعتى نظام ديكتاتوري، كانت تذوب رويدا رويدا في ضباب الأهوار، ذلك النظام الذي كان يقطع الرؤوس على التُهَم، ويعدم كل من تسوّل له نفسه أن يخالفه، أو يعترض على قراراته الجائرة.
جدف في المشحوف الصغير بيأس رجل فقد رفاقه وسط متاهة من الماء والقصب المتشابك، وقد ارتعشت يداه من التعب والخوف، فالريح العليلة التي تمر عبر القصب تصدر صوتا حادّا، كأنها تهمس له:
"اهرب… أو كن مستعدًّا للمجهول"
في تلك اللحظات الهاربة استعاد صالح شريط حياته السابقة، فكل شيء فيها كان يتبع إيقاع الكوارث، حيث ذاق مرارة العيش من نكبة إلى نكبة.. ولد حين سقط الزعيم قاسم، ودخل المدرسة حين سقط نظام الأخوين عارف، وحين صار ابن السابعة عشر تفجرت الأرض تحت أقدامه مع اندلاع حرب الخراب الأولى والتي اطلق عليها حرب الخليج الأولى، ليعرف طعم الخوف منذ صباه، وفي ذروة شبابه، أُعدم والده بتهمة الانتماء لحزب ديني، وصمة كانت كافية ليُحاك حولها الشك والارتياب، ووضع علامة استفهام على جبين عائلته، حتى بعد أن تخرج مهندسا مدنيا، إذ كان يحلم ببناء الجسور لا بنسفها، لكن النظام ألقى به في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، حيث كان عليه أن يرتدي بدلته العسكرية ليشهد الفصول الأخيرة من الحرب.
بعد تسريحه من الجيش، وجد نفسه يبيع سنوات من عمره في دائرة حكومية مغمورة، بعيدة عن تخصصه لمجرّد أنه لم يتقن فن الخضوع، متلهفا لفرصة تُبعد عنه شبح الموت في زمنٍ تداخلت فيه الدماء مع الطين، حتى لم يعد للبراءة معنى، ولكي ينجو من ظلال تهمة والده، حاول أن يخفي انتماءه الموروث، فاختار أن يتقمص دور المستهتر الذي لا يعبأ بشيء حتى رُفعت التقارير ضده، ولكن هذه المرة بصبغة أخرى "شيوعي.. كافر"، كما ظنه جلاوزة النظام، فكتبوا التقارير ضده، ولم يكن "صالح" كذلك، لكنهم ألبسوه رداء الانتماء إليهم، فصار حَمَله ثقيلا كالصخر، فكان هروبه ليس مجرد هروب من الجلاوزة، بل هروب من مصير محتوم، من تهمة لم يرتكبها، ومن انتماء لم يكن له، هذا التناقض المرير قاده أخيرا إلى جبال كوردستان بعد أن اندلعت حرب الخليج الثانية، حيث هرب إلى هناك ليلوذ بالشيوعيين، أولئك الذين كانوا السبب في هربه أصلا، ليصبح خيطا في شبكة مقاومة أوسع، ويجد نفسه مجبرا على حمل السلاح إلى جانب "الرفاق" الهاربين من بطش النظام، ويتغير اسمه الى فهد بدلا من ياسين، ليسقط اسمه الحقيق في زحام الهروب.
لم يكن شيوعيا أبدا، فلم تطق روحه هذا التماهي القسري كما لم يتحمل القتال إلى جانب هؤلاء الرفاق طويلا، إذ لم يكن مقتنعا، لم يكن منتميا، كان مجرد هارب يبحث عن ملاذ، ولم يلبث أن تعرف على خيوط من نسيج آخر، فحين عرف بوجود أحزاب دينية في كوردستان، انتقل إليها كمن ينتقل من جحيم إلى جحيم علّه يجد متنفسا، ليرسلوه الى الجنوب، لينتهي به المطاف في جحيم الأهوار، حيث القصب والرعب، وها هو الآن تائه فيها بين الماء والوحل والنسيان، وحيدا كما كان دائما، بعد أن تقطعت به السبل وتاه عن رفاقه، ولم يبقَ إلا صدى قلبه يدق كطبول الحرب القديمة.
أثناء التجديف، اقترب من منطقة كثيفة القصب والبردى، وبدا الماء كأنه يخفي أعمق أسراره، ليتوقف هناك لبرهة، يلتقط أنفاسه، ثم ترجل من المشحوف الصغير محاولا سماع أي صوت للجلاوزة، لكن الأهوار كانت صامتة بشكل مخيف، حتى الرياح توقفت وكأنها تنتظر ما سيحدث، ليبدو وكأنه في عزلة عن العالم، ويرتجف داخله، فلا صوت إلا حفيف القصب ونداءات الطيور الغريبة.
فجأة، لمح بريق ضوء صغير بعيد، ينعكس على سطح الماء، حدسه قال له: "إنها فرصة النجاة الوحيدة"، شق طريقه بين القصب، يرفس ساقه بعنف، لكنه لم يتراجع، مع كل خطوة، كان قلبه ينبض بقوة، وعقله يخطط لكل فخ محتمل.. حتى ساق إليه القدر زورق صغير، كان فيه رجل في منتصف العمر يدعى ناصر، طويل القامة ملامحه هادئة وعيناه تلمعان بحكمة الأهوار، بدا وكأنه يعرف الأسرار التي لا يعرفها أحد، رجل ناقم على النظام، سمع عن عمليات في الأهوار تستهدف النظام، وحين رأى صالح التائه، أدرك فورا من يكون، لم يستغرق وقتا طويلا ليدرك أن هذا الغريب التائه هو أحد أولئك المعارضين الهاربين من بطش النظام.
- أهلا بك يا غريب.. من أنت؟ سأله بصوت خافت، وواثق، كأنه يعرف كل شيء
أومأ صالح برأسه، متعبا، جائعا، خائفا، كانت الكلمات غير مهمة الآن، فكل ما يهمه هو النجاة، وراحة جسده المرهق، لكن العيون كانت تكفي ليشعر بالطمأنينة، فنظرات ناصر تقول: "أنت بأمان، على الأقل هنا".
- "تعال معي"، قال ناصر ببساطة، وكأنه يدعو صديقا قديما لتناول الشاي، أخذه دون تردد إلى بيته المتواضع الذي شُيّد من القصب والطين على حافة الماء، تتسلل إليه رائحة الماء والرطوبة في كل وقت، بيت يشبه نفسه، يختبئ بين القصبة والطين، لم يكن فيه ما يلفت الأنظار، لكنه كان يشبه صاحبه؛ صامتاً، خجولاً، يختبئ بين أعواد القصب وكتل الطين كما لو أنه جزء من الطبيعة نفسها، دخل صالح، ووجد زوجة ناصر، امرأة أرملة تكبر زوجها بعشر سنوات، وتحمل في عينيها مزيجا من القسوة والحنان، ولها ثلاثة أولاد من زوجها السابق، أكبرهم علاء، صبي في الرابعة عشرة بوجه نحيل وعينين واسعتين ويملك نظرة تفوق سنواته، ظلَّ يراقب ناصر وضيفه بعينين ذكيّتين، كما لو كان يعرف أكثر مما يظهر، ولم يكن لناصر أولاد من هذه المرأة، لكنه عامل أولادها كأنهم لحمه ودمه.
في تلك الليلة، بعد عشاء بسيط أُعد سريعا من سمك الأهوار المسكوف ورغيف خبز رقيق وشاي ساخن، جلس الرجلان على الأرض في غرفة الضيوف المتواضعة، التي كانت عبارة عن حصر وأفرشة قديمة وكومة من الأغطية البالية وفانوس صغير يرتعش نوره ويلقي بوهج متعب على الجدران، وساعة حائط قديمة تدق بصوت رتيب، وفيما كان الليل يتعمق انفتح ناصر على عالمه الآخر، حيث حكى لصالح حكاية غريبة، وكأن حديثه يفتح أبوابا إلى عالم آخر، عالم لا يعرفه صالح.
- "أتعرف يا أخي، إن هذا البيت محروس"، قال ناصر وهو يبتسم ابتسامة غامضة، ثم تابع قائلا "أنا على اتصال بأربعة من حرّاس الأهوار، وهم خدام مقام أحد الأولياء الصالحين، ويطيعونني، وهم هنا ليساعدوني، وليس ليؤذوا أحدا".
وصفهم له بدقة، أسماءهم، صفاتهم، طباعهم، فيما صالح، المهندس الذي لفّته نيران الإيديولوجيات المتناقضة، كان يستمع بصمت، وجهه لا يبدي شيئا، لكن في داخله نفور لا يُدرك أسبابه وصوت ساخر يردد: "هذيان... مجرد خرافات أهل الأهوار"، لكنه لم يشأ مجادلة الرجل، فهو لم يعد يؤمن بشيء، فكيف له أن يصدق بحكايات حرّاس الأهوار؟ لكن الخوف والإرهاق جعلاه يكتفي بالإيماءة.
تحدث ناصر بهدوء، وكأن صوته يمزج بين الحكمة والسرّية: "أعرف أنك هارب، وأعلم أنك تحمل قصصا لم تُحكَ بعد.. لكن هنا، بين القصب والماء، ستجد الحماية، لكن عليك أن تفهم أن لكل شيء ثمنه".. لم يرد صالح بل اكتفى بالنظر حوله، كان فضوله يقوده إلى كل زاوية، كل ظل، وكل صوت صامت في الغرفة.
قبل أن ينسحب ناصر لينام مع زوجته، فُرشت الأسرة على الأرض للنوم، وطلب من ضيفه أن يطفئ الفانوس ويغلق الشباك قبل النوم خوفا من البرد، فيما علاء الابن المتبنى لناصر بدأ يغفو ببطء ليغط في نوم عميق، حيث أدار ظهره الى جهة الحائط واختبأ تحت غطاء رمادي، بينما كان الليل يسدل ستاره على أهوار الجنوب، ومعه أسرارها العميقة.. استلقى صالح على ظهره، ويداه تتلمسان كتابا وجده على زاوية الغرفة عنوانه "ثلاثة ملوك في بغداد"، قرأ بضع صفحات منه محاولا أن ينسى الحرب والخوف والتيه، لكن قلبه ظل مجهدا، وعينيه تتثاقلان، حتى ألقت الساعة الجدارية بظلها على الغرفة، مشيرة إلى الحادية عشرة مساء، فشعر بنعاس ثقيل يغالب يقظته.. وفي تلك اللحظة الفاصلة بين النوم واليقظة، شعر بيد خفية، باردة، تمتد إلى غطائه وتشدّه بقوة عنيفة، ارتعش من المفاجأة، ورفع الغطاء، لكنه لم يجد أحدا، فأعاد الغطاء بحذر، لكنه لم يلبث أن شعر بنفس اليد تحاول سحبه مجددا، لينتفض من مكانه، لا يعرف إن كان ما يحدث حلما أم حقيقة، فارتطم رأسه بفراغ وفتح عينيه مذعورا.. لم يكن هناك أحد، تنفس بعمق وهمس لنفسه: "مجرد حلم"، فأعاد الغطاء على جسده المرتعش وأغمض عينيه، فعادت اليد تسحبه مجددا بعناد أكبر.
انطلقت من صدره صرخة مكتومة، فهَبَّ واقفًا كمن لُدغ فجأة، وفي اللحظة ذاتها أدرك أن شيئا ما تغير، فلم يكن ممدّدا على الأرض، بل وجد نفسه فوق سرير عالٍ من الحديد، فيما الغرفة غارقةً في العتمة، والفانوس مطفأ، والهواء بارد كأن الليل كله تسلل إلى الغرفة رغم إن الشباك مُغلق بإحكام، وإلى جواره امتدّت ثلاثة أسرة أخرى، على أحدها شخصٌ يبدو على هيئة الفتى علاء، أمّا السريران الآخران فكان يحتلهما شخصان غامضان زادا المشهدَ إرباكا ووحشة.
نادى بصوت مبحوح: "علاء".. فلم يُجبه، ركض نحوه وهزّه كتفه بعنف ليوقظه، فالتفت إليه شخص بوجه أزرق مخطط باللون الأسود الباهت، أسنانه زرقاء تتوهج في الظلام، لم يكن صبيا، ولا رجلا، لكنه يجمع بين شكل الإنسان وعلامات أخرى غريبة، كأن العالم الذي عرفه صالح منذ ولادته قد انفصل عن الواقع، ابتسم ذلك الوجه ابتسامة واسعة ومجرّدة من أي دفء، ثم عاد إلى نومه مُعطيا إياه ظهره، كما لو أن شيئاً لم يكن.
تجمد الدم في عروق صالح و تسمر في مكانه عاجزا عن فهم ما يراه، فكل ما تعلمه في حياته، كل حروبه ومعاركه، لم تعدّه لهذه اللحظة، ثم صرخ باسم مضيفه "ناصر"، لكن لا صدى لصوته، وفي لحظة يأس اندفع خارج الغرفة نحو ما ظنّه غرفة ناصر، فوجد الباب مواربا، يتسلل منه ضوءٌ أخضر خافت كالوميض الذي يراه الغريق في أعماق المستنقع، "ناصر.. ناصر" صاح مرة أخرى، دون أن يسمع جوابا، حاول أن يسترق السمع دون أن يجرؤ على دخول الغرفة، لكنه لم يسمع صوتا، لا رد، لا حركة، كانت الغرفة صامتة تماما، وكأنها تنتظر شيئا أكبر، شيئا لم يكن في حساب صالح نفسه.
لم يجد حلا سوى العودة إلى السرير الملعون، والرعب يلتف حول عنقه، أعاد الغطاء وأخفى رأسه بحذر وهو يرتجف، وعادت الحركة وكأن هناك من يسحب الغطاء من جديد، أغلق عينيه مذعورا، وصرخ في الظلام صرخة رجل وصل إلى حافة الجنون، محاولا التشبث بآخر ذرة من وعيه.. وفجأة توقف كل شيء.. حاول أن يفتح عينيه، لكن الخوف كان أقوى منه، حاول مرة، مرتين، ثلاث مرات، وأخيرا تجرأ وفتح عينيه المرتعشتين، ليطلّ على العالم، فإذا به ممدد على الأرض مجددا، والكتاب على صدره، والشباك مفتوح، والفانوس مشتعل بوهن، والساعة على الجدار تشير إلى الثانية عشرة ليلا.. ساعة كاملة قضاها في رعب مُطلق، اختُزلت في لمحة، لكنه شعر كما لو أنه عاش ساعة من عالم آخر محاصرا بين يقظة وكابوس، وكانت الساعة كافية لتهز أركان أي يقين تبقّى له، حاول النوم مجددا، لكن الخوف والتعب جعلاه يتقلب في فراشه بلا جدوى، حتى غلبه الإعياء والنعاس في ساعات الفجر الأولى.
مع شروق الشمس على الأهوار، كان الماء يعكس خيوط الضوء الأولى، كأنه يحاول أن يمحو الظلال الليلية التي لم تفارق صالح منذ الليلة السابقة، جلس على حافة البيت، وقد أمسكت أصابعه برفق حافة القصب، محاولا استيعاب ما حدث، لم يكن يعرف هل ما عاشه كان حلما أم حقيقة، لكن إحساسه بالرهبة لم يتركه لحظة، ليدرك أن عليه مواجهة شيء من الماضي، شيء لم يجرؤ على الاعتراف به حتى لنفسه، في داخله، كان الخوف يختلط بالغضب، والحنين بالألم، وذاك الألم القديم الذي بدأ منذ أن أُعدم والده، وتوالت عليه المصائب منذ صغره، فاستجمع شجاعته، وقال بصوت منخفض، وكأنه يهمس لنفسه:
- "كل هذا.. كل ما حدث.. كان أملا بأن أنجو، لكني أدرك الآن أنني لم أهرب من شيء.. بل من نفسي ومن حقيقتي".
دخل ناصر إلى الغرفة، وأحضر الفطور بنفسه، لم يجرؤ صالح على الإفصاح محتفظا بسرّه لنفسه، لكن ناصر، وهو يقدم له الفطور، جلس أمامه واعتذر ببرود غامض وهو يبتسم ابتسامة هادئة وكأنه يعرف كل شيء وردد:
- "أعلم أن الليلة كانت غريبة.. لم أكن أعلم أن خدّامي سيقومون بهذا المقلب، لم يتحملوا أن تتجاهل حضورهم، إنهم أحيانا.. لنقل إنهم يحبون أن يمازحوا ضيوفي".
شعر صالح بتوتر شديد، كانت الكلمات وكأنها صدى الليل الذي عاشه، صوت الغموض الذي يسكن الأهوار، فلم يجد ما يقوله، فقط أومأ برأسه وهو يشرب الشاي بيدين ترتعشان، فلم يكن يجرؤ على التفكير بما حدث في الليلة السابقة، كما لم يكن يعلم أن هذه التجربة ستكون البداية لرحلة غامضة، ستربطه بالأهوار، بالماضي، وبأرواح لم تذق السلام بعد، فكل ما شعر به، هو أن شيئا لم ينته بعد، وكل زاوية في المكان، وكل خفقة قلب، كانت تصدر صدى من عالم لم يعرفه من قبل.
وبعد ساعات، أوصله ناصر إلى الطريق الذي سيعيده إلى رفاقه المختبئين، وقبل أن يودعه أضاف قائلا، وكأنه يوجهه إلى درب آخر:
- "الخوف يجعلنا نرى وجوها لم تكن موجودة، ويخلق أرواحا لم تكن على الأرض، لكنك هنا لتتعلم أن كل شيء له معنى، حتى الظلال، عليك أن تسمع لهم، أن تراهم، حتى تفهم الطريق".
نظر صالح إلى الماء، وإلى القصب الذي يتحرك بخفة مع الرياح، وكأن الأهوار كلها تهمس له:
- "ليس كل ما تختبئ منه يرحمك، وكل ما يلاحقك لا يتركك إلا حين تواجهه".
انتهت تلك الليلة، لكن ظلّها بقي، حيث سجلت هزيمة أخرى على لوح صالح، فعندما غابت الشمس خلف الأفق، صار كل شيء في الأهوار أكثر غموضا، انعكس الضوء الأخير على الماء، فأضاء الممرات المائية بألوان خافتة، كأنها علامات طريق مرسومة بعناية من قبل الزمن نفسه، ومع حلول الليل، انقلب كل شيء حوله إلى عالم آخر، حيث امتزجت ظلال القصب بالماء، وأصبح كل صوت صدى يحمل رسائل غير مفهومة، ليجلس بين رفاقه، محاولا استيعاب ما حدث في تلك الليلة، شعر برعشة تسري في جسده، لكنه تذكر كلمات ناصر: "عليك أن تراهم، أن تسمع لهم، حتى تفهم الطريق"، فأغلق عينيه، وحاول التركيز على إحساسه الداخلي بدلا من شكله الخارجي، وبدأ يسمع أصواتهم تتناغم مع هدير المياه والقصب.
شعر بأن شيئا داخليا ينكسر، شيء من خوفه القديم يتحلل أمامه، فأدرك أن كل خطوة في الأهوار لن تكون مجرد هروب، بل مواجهة مستمرة مع الظلال، ومع ذكريات والده، ومع كل الأسرار التي حاول أن يدفنها بعيدا، لينمو في داخله شعور جديد، بأن الهروب لم يعد هدفه الوحيد، بل الفهم والمواجهة، والنجاة بطريقة لم يعرفها من قبل.
منذ تلك الليلة، صار وجه الكائن الأزرق يتكرر في مخيلته، كلما غابت الشمس، وكلما اقترب الليل، صار هاجسه الأكبر، وفي كل مرة يغمض عينيه، كان يشعر بأن وجوده يراقبه، يختبره، ويختار له طرقا لم يكن يتصورها من قبل، لتمر السنوات كأنها حلم ثقيل، غادر خلالها صالح جحيم العراق إلى سوريا، فعمل بائعا للصحف في شوارع دمشق، ثم رحل إلى إيطاليا، وترك الأحزاب والصراعات وراءه وحاول أن ينسى، ليتخلص من عبء السياسة، لكنه لم يتخلص من عبء ماضيه.
بعد سقطت الأقنعة بسقوط النظام، عاد إلى بغداد وارتدى قناعا جديدا هو نفسه ذاك الذي ارتداه حين كان عالقا في الأهوار، ليعود إلى حزبه القديم، ويصعد سُلّما من النفوذ والمناصب.. عضو في البرلمان، ثم وزيرا، حتى صار اسماً ثقيلاً في الدولة، يمشي وحوله حراس أكثر من كل الذين قاتل معهم يوماً، فالوزارة جلبت معها إغراءات لم يكن يعرفها من قبل، أموال، نفوذ، سلطة.. وفي دهاليز السلطة، لم يعد الوزير صالح، فهد الشيوعيين ولا ياسين المهندس الحالم، حيث وجد نفسه يختلس أموالا طائلة، كما فعل غيره، كأنما يعوّض سنوات الفقر والخوف بالذهب، متناسيا الفتى الهارب في الأهوار، والمهندس الذي حلم ببناء الجسور.
وفي يوم من الأيام، بينما كان جالسا في مكتبه الفخم، دخل عليه سكرتيره يخبره أن رجلا من الجنوب يدعى "ناصر" يريد لقاءه، وبدون تفكير أمر بإدخاله، ليدخل ناصر، بملابسه البسيطة ووجهه الذي لم يمحه الزمن كثيرا، رغم أنه صار أكبر سنا، أكثر شيبا، لكنه نفس الرجل، نظر إليه الوزير "صالح" بنظرة باردة، كأنما ينظر إلى غريب، قال: "أتعرفني؟"، هزّ ناصر رأسه وردد بلهفة: "نعم، إنه أنت، لم تتغير كثيرا"، ابتسم الوزير ابتسامة باردة وردد قائلا: "لا أعتقد ذلك، لستُ أدري من أنت، ولم أسمع بك"، نظر إليه ناصر طويلا بحزن عميق، ثم أومأ برأسه وهم بالمغادرة، لم يتوسل، ولم يشر إلى تلك الليلة في الأهوار، فقط نظر حول المكتب الفاخر، وابتسم ابتسامة خفيفة، مشابهة لابتسامته ذلك اليوم، ثم انسحب بصمت، في تلك اللحظة، رفع الوزير صالح بصره ليقع على ساعة جدارية كبيرة معلقة في مكتبه، كانت تشير إلى الحادية عشرة تماما.
في تلك اللحظة، بقي صالح وحيدا في مكتبه، نظره مثبّت على الساعة، وفجأة شعر ببرودة غريبة تتسلل من قدميه إلى رأسه، كما لو أن يدا خفية باردة كالطين، تمتد لتشد غطاء اليقين الأخير من روحه، وبدأت تسحبه بعيدا، إلى الجنوب، حيث ينام حرّاس الأهوار على الأسرة الحديدية، وحيث لا خلاص لأحد من ظله هو نفسه، توقف قلبه للحظة، تذكر تلك الليلة، تذكر الوجه الأزرق، تذكر الضوء الأخضر، تذكر الخوف، فصاح : "ناصر.. ناصر"، لكن لا أحد يجيب، فالباب كان قد أغلق، والرجل اختفى، ليدرك أن حرّاس الأهوار لم يكونوا يمزحون معه تلك الليلة، بل كانوا يعدّونه لمكانه الحقيقي، ليصبح هو نفسه القصبة التي تخفي خلفها الرعب، فلم يعد ضحية، حين تحول إلى أحد أولئك الذين يشدون غطاء الوطن ليسحبوه إلى العدم.


