بصدور نصه الطويل «أوديسيوس المشرقي»، (2025 عن دار الميثاق/الموصل.80 صفحة)، يضيف بولص آدم هذا العمل إلى منجزه الأدبي، بعد عقود من الاشتغال في الفن وعلى نصوص قصصية، روائية وشعرية ونقدية.
وسيسأل القارئ اللبيب نفسه منذ الصفحات الأولى: هل هو رواية، أم شيئًا آخر أكثر احتواءً وأرحب أفقًا؟
يحمل النص منذ عنوانه ملامح مشروع غير تقليدي: فهو لا يُقدّم حكاية خطيّة أو أحداثًا متسلسلة بقدر ما يفتح فضاءً سرديًا يتقاطع مع الفنون البصرية والتأملات الفلسفية. أوديسيوس المشرقي ليس مجرد بطل أسطوري عائد من البحر، بل رسّام عراقي يعيش في مرسمه بين نافذتين قديمتين في الموصل، يحوّل اللوحة إلى مساحة صمود وحياة، ويجعل من الفن وثيقة بقاء في مواجهة الخراب. وفي خلفية هذا البناء الفني، يستلهم النص تجربة الفنان التشكيلي الراحل لوثر إيشو ولوحاته، لتجعل منها محورًا بصريًا يتكئ عليه السرد ويحوّله إلى حكاية ميتا-تصورية.
منذ البداية، يضع النص قارئه أمام سؤال الفن والذاكرة: كيف يمكن للوحة أن تُعيد بناء ما دمّرته الحرب؟ وكيف يتحوّل اللون إلى لغة موازية للسرد؟ هنا يُكتب النص بروح «الدفتر التشكيلي»، حيث تصبح اللوحات شخصيات، تنطق وتجادل وتفتح أبواب الأسطورة على الواقع.
يستحضر النص رموزًا من عمق التاريخ الرافديني، مثل جلجامش والشاعرة السومرية، ويجعلهم يجتمعون في مشهد سريالي عند ساحة أوروك، حيث تُعرض لوحة لطائر يحترق وهو يغني. في ذلك المقطع اللافت، يقول أوديسيوس:
«هذا الطائر يشبه الصدى الذي تبقى بعد موت الحكاية.
المدن، مثل الطيور، تموت إن لم تغنِّ. والموصل، كانت طيرًا كثير الغناء.
الآن، بقي صوتها فقط، عالقًا في ألوان مائية، كأنها تغني تحت الماء.»
هذا المقطع يكثّف روح السرد: الفن بوصفه محاولة لتثبيت الصوت في مواجهة الصمت، والمدينة بوصفها كائنًا حيًا ينهار لكنه يترك أثره في اللون.
تُعالج التجربة ثيمات مركزية:
الفن كوسيلة خلاص؛ الفرشاة هنا ليست أداة تجميل، بل محاولة نجاة.
المدينة كذاكرة؛ الموصل، بخديدا، نينوى تتحول إلى رموز حيّة لا إلى جغرافيا فقط.
الزمن كجرح؛ لوحات الألفية والساعات الرملية المختلّة تجسّد إحساسًا بزمن مريض فقد إيقاعه.
الأسطورة كمرآة للراهن؛ جلجامش وأوديسيوس الإغريقي يتجاوران مع الفنان المعاصر في سعي مشترك وراء الخلود والمعنى.
أسلوب بولص آدم في هذا العمل متفرّد، إذ يكتب بلغة شعرية مشبعة بالتأمل، يزاوج فيها بين النقد الفني والسرد الحر، ليصبح النص أقرب إلى ملحمة بصرية أو نص تأويلي مفتوح. كما يحاور نقاد الفن ومؤرخيه والفلاسفة (غادامر، كاسيرر)، مستعينًا بمفاهيمهم حول الرمز والتأويل ليجعل اللوحة مساحة للفكر بقدر ما هي مساحة للرؤية.
إن صدور أوديسيوس المشرقي في الموصل يُمثّل ولادة نوع سردي جديد في الأدب، يضع الكتابة في حوار مباشر مع الفنون البصرية والفلسفة، ويمنح القارئ تجربة استثنائية تفتح أمامه نوافذ جديدة على معنى الأدب والفن. ومن رمزية هذا الصدور في الموصل أنه يعيد للمدينة موقعها كفضاء حيّ للثقافة والإبداع.
وبذلك يكون النص السردي قد وُضع بين أيدي القرّاء، ليبدأ رحلته الأولى، مثل نافذتين مفتوحتين على ذاكرة لا تزال حيّة.