: آخر تحديث

غزة... عناقيد الغضب

3
2
2

لو كان الروائي الأميركي الشهير جون شتاينبك لا يزال حياً بيننا، لكتب روايته الذائعة الصيت «عناقيد الغضب» عام 1939، عن الإعصار القاتل الذي ضرب غزة، بدلاً من الكتابة عن إعصار الجفاف الذي ضرب ولاية أوكلاهوما في الجنوب الأوسط الغربي الأميركي.

استدعيت تفاصيل الرواية التي تسببت في فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1962، وتحولت إلى فيلم سينمائي شهير عام 1945، عندما تأملت تفاصيل الإبادة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في حق سكان غزة، ومشاهد الهروب الجماعي في سيارات صدئة قديمة، تلك التي تشبه هروب عائلة بطل الرواية «توم جود» من الجفاف والفقر والديون التي ضربت أوكلاهوما، وصولاً إلى كاليفورنيا بوصفها مكاناً آمناً بحثاً عن حياة جديدة.

غزة لم يضربها إعصار طبيعي، إنما أنهكتها أعاصير الإنسان الذي ينظر إلى نفسه بتعال، ويعتقد أن الفلسطينيين أقل شأناً، ألم يقل يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق: «إنهم حيوانات وحشرات»، كانت مشاهد هؤلاء الناس وهم يفرون، يبحثون عن عناقيد تمثل ثمار الأمل، بعيداً عن الغضب الوحشي الذي يأتيهم من الأرض والسماء عبر الطائرات الحربية، والمسيّرات الانقضاضية والصواريخ وسلاح التجويع، والخوف والرعب.

اختلفت الأزمنة والأمكنة بين الرواية في أميركا، والحقيقة في غزة، لكنْ ثمة ناظم مؤلم مشترك، فكلاهما تم اقتلاعه من أرضه، سواء بفعل الطبيعة الثائرة أم بفعل الإنسان الذي يرتكب الإبادة باسم السماء.

فارق زمني بعيد، لكن اللحظة مشتركة، رحل شتاينبك، لم يعش ما نعيشه الآن من مآسٍ في غزة، لكن ثمة كوارث تستدعيه أو تستلهم روح ما كتبه عن مثل هذه الكوارث التي لم تعد البشرية تحتملها مهما اختلفت أشكالها.

غزة واحدة من «عناقيد الغضب» التي قد تنفرط في وجوه الجميع، إذا لم نفتح أبواب الأمل أمام شعب يعاني أكثر من قرن، تهجر على مدى عقود، وتمت إبادته من جيل إلى جيل، نعرف جميعاً أن ألمانيا شعرت بالخذلان بعد اتفاقية «فرساي» 1919 التي تسببت في الحرب العالمية الثانية، وكاد العالم يصل إلى النهاية حين استخدمت الولايات المتحدة الأميركية القنابل النووية للمرة الأولى في التاريخ، عندما قصفت مدينتي ناغازاكي وهيروشيما اليابانيتين عام 1945، وكان ذلك بسبب عدم العدالة، والشعور بالغضب من فرساي، لا نريد أن تكون هناك فرساي أخرى في غزة، فالعدالة تقتضي أن نعيد الفلسطينيين إلى أوطانهم، فالاقتلاع سيترك أثراً كالقنابل الموقوتة.

إن الغضب والتمرد يمكن لهما أن يحولا الشرق الأوسط إلى جحيم، وتبدو فيه غزة كأنها خميرة الحروب، وهي كذلك بالفعل، فقد رأينا أن الشرر تطاير منها إلى لبنان، وسوريا واليمن، والعراق، وإيران، وكاد يلتهم خرائط أخرى مجاورة، وكانت الأيادي على الزناد طوال الوقت خلال عامي الجحيم اللذين دارت فيهما رحى حرب الإبادة الإسرائيلية، ولا تزال الآثار ماثلة أمامنا، تحتاج إلى عدالة وضمير للسلام، وقوة تحمي الاستقرار، وأن مفهوم سلام القوة لم يعد مناسباً لإقليم ظل ميدان رماية وساحة حرب لعقود طويلة، غزة فصل شائك من رواية شديدة التعقيد. يجب أن نقرأها بعناية، ونأخذ بيدها من عالم التدمير إلى عالم السلام، صحيح أن كارثة حلت بهذا المكان الصغير من العالم، لكن ما بعد الكوارث دائماً تتجدد الحياة، تماماً كنهاية رواية شتاينبك «عناقيد الغضب» حين أدرك أبطالها أن الحياة لابد أن تمضي، وأن الحقوق لابد أن تعود، وتنزع من يد سارقيها، لا سيما أن الفرصة باتت مواتية، ذلك بعد الانفجار الكبير في الرأي العام العالمي، والتحركات التي تمت على الأرض بتوقيع 90 في المائة من سكان الأرض، للاعتراف بدولة فلسطينية، والتنديد بكل صنوف الجرائم الإسرائيلية، والإدراك الكامل لدى صناع القرار على المسرح الدولي بأن وجود دولة فلسطينية يمثل المسار المضيء للوصول إلى استقرار الخرائط، ومنع فوضى جديدة، كثيراً ما استغلتها قوى إقليمية ودولية، لتنفيذ مخططات لا تناسب شعب فلسطين، ولا تقبلها شعوب المنطقة أو العالم الحر، فضلاً عن أن تجاهل حل القضية الفلسطينية ربما يستدعي غضب ودروس اتفاقية فرساي؛ ولذا فإن محاولات شطب السلام أو التحريك الخاطئ لبيادق الشطرنج على رقعة الصراع الدولي، إنما يمثل إعصاراً، لا تفلح معه دبلوماسية إطفاء الحرائق، وساعتها سيندم العالم على تقاعسه وعدم مبادرته لإنقاذ مقدرات الدول والشعوب التي قالت كلمتها بشأن فلسطين التي تتعرض للشطب من الخرائط، و دفعها بقسوة إلى التنازل عن الحق في الوجود الذي كفلته لها المواثيق والشرائع الدولية، ولا يتصور أحد أن الشعوب ستتنازل عن أوطانها أو ثقافتها أو الاندماج بالقوة في ثقافات أخرى، فبعد قرن مضى لم تعد الخرائط تحتمل غزة الجريحة المزمنة، بل لا تحتمل أيضاً أي غزة جديدة، حتى لا يعيش العالم في سلسلة من «عناقيد الغضب».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد