: آخر تحديث

سوريا... اختبار الدولة لا اختبار السلطة

2
1
2

بعد عام واحد فقط من التغيير الجذري الذي شهدته سوريا، لا يزال السؤال الأكثر إلحاحاً معلقاً في الهواء: كيف حدث كل هذا بهذه السرعة؟ وكيف أمكن لنظام استمر عقوداً أن ينهار بهذه الكيفية؟ الإجابة البسيطة، وإن كانت قاسية، أن ما صنعه النظام خلال السنوات العشر الأخيرة كان يقود حتمياً إلى هذه النهاية...

ليس خافياً أن السقوط ليس وليد لحظة سياسية خاطفة، بل نتيجة تراكم طويل من الإفقار والدمار وانسداد الأفق، وتآكل شرعية الدولة من داخلها. عندما تتحول الدولة إلى منابر متصارعة، ويغيب القانون، ويُهمَّش المجتمع، وتُدار البلاد بمنطق الغلبة لا بمنطق المؤسسات؛ فإن النتيجة تكون مؤجلة فقط لا ملغاة.

اليوم تقف سوريا في لحظة تاريخية شديدة الحساسية، ليست لحظة نصر ولا لحظة هزيمة. يرى البعض أن هناك فرصة لبناء دولة مدنية حديثة، تقوم على المواطنة، وعلى القانون لا على السلاح، وعلى الكفاءة لا على الولاء، في حين يقرأ آخرون المشهد بعين القلق، معتبرين أن الفراغ السياسي قد يُملأ بصيغ جديدة من الاستبداد، ولو بأقنعة مختلفة.

ما يلفت النظر أن إبحار السلطة الجديدة خلال هذا العام لم يتم في فراغ إقليمي، بل جرى بمساندة واضحة من جناح الاعتدال العربي، وخصوصاً من دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. الفرق الجوهري هنا أن التحالفات هذه المرة صُنعت بحسابات صحيحة، على عكس ما فعله النظام السابق، حين نسج، بقدر كبير من الحماقة السياسية، تحالفات خاطئة عزلته عربياً ودولياً، إلا أن التحالف الصحيح وحده لا يصنع معجزات، لكنه يفتح نوافذ، ويمنح فرصاً، ويقي من الانزلاق الممكن إن اتُّبع الهوى وقُدمت الآيديولوجيا على السوسيولوجيا...

الدولة اليوم ليست آيديولوجيا صلبة، وليست مقراً رئاسياً، بل شبكة معقدة من القضاء المستقل، والإدارة الكفؤة، والاقتصاد المنتج، والتعليم الحديث، وحياد الجيش، وتكافؤ الفرص بين المواطنين.

الشرع، خلال هذا العام، أظهر مسلكاً سياسياً مختلفاً عن أنماط الحكم السابقة؛ خطاب أقل صدامية، ومحاولات لإعادة الاعتبار للمؤسسات، وفتح محدود للنقاش العام حول شكل الدولة المقبلة. هذه إشارات إيجابية إن وُضعت في إطار صحيح، لكنها لا ترقى بعدُ إلى مستوى التحول البنيوي.

التحدي الأول يتمثل في إعادة بناء الثقة. شعب عاش سنوات طويلة في الرعب والخذلان لا يمكن أن يستعيد ثقته بين ليلة وضحاها؛ لأن الثقة تُبنى بالعدالة، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وتعويض الضحايا، وطي صفحات الثأر دون طمس الحقيقة. التحدي الثاني اقتصادي بامتياز، فسوريا خرجت من الحرب بجسد اقتصادي منهك، وبنية تحتية مدمرة، وطبقة وسطى شبه غائبة. لا دولة حديثة بلا اقتصاد منتج، ولا إعادة إعمار حقيقية دون بيئة قانونية شفافة، ولا تنمية من دون شراكات إقليمية ودولية مستقرة.

أما التحدي الثالث فهو اجتماعي وثقافي. وهنا تمتلك سوريا ميزة كبرى قلّما يُلتفت إليها بالقدر الكافي، وهي رصيدها الهائل من القوة الناعمة؛ في الثقافة، والفن، والمسرح، والدراما، والموسيقى، والأدب، والتعليم. هذه مخزونات تاريخية عميقة، صنعها سوريون من خلفيات متعددة على مر السنين، كما هو حال النسيج السياسي والاجتماعي نفسه. إعادة توظيف هذه القوة الناعمة في مشروع الدولة الحديثة ليست ترفاً، بل ضرورة؛ لأنها أهدأ وأعمق أداة لترميم الوعي الوطني، وردم الشروخ، وصناعة هوية جامعة تتجاوز منطق الغلبة والهويات الضيقة.

في البعد الإقليمي، تتحرَّك سوريا اليوم في مساحة معقدة من التوازنات. عودتها التدريجية إلى الفضاء العربي تمثل رافعة سياسية واقتصادية بالغة الأهمية، لكنها تظل مرهونة بقدرتها على ضبط سيادتها، وتحديد علاقتها بالقوى التي تمددت خلال سنوات الصراع. هنا يصبح القرار السوري أمام اختبار مزدوج: أن يحسن الإفادة من الدعم العربي، وأن يتجنب الوقوع من جديد في فخ المحاور الصدامية.

بعد عامين من اليوم، كيف يمكن أن ننظر إلى هذه التجربة؟ هناك سيناريو ناضج، يتمثل في انتقال من سلطة الأمر الواقع إلى دولة القانون، عبر دستور توافقي، وانتخابات حقيقية، وإدارة لا تقوم على منطق الغنائم. وهناك سيناريو آخر أكثر قتامة، قوامه إعادة إنتاج الاستبداد بصيغة مختلفة، مع اختلاف الوجوه وبقاء الجوهر.

ما جرى في سوريا خلال عام واحد هو زلزال سياسي كامل الأركان، لكن الزلازل لا تبني المدن، بل تفتح المجال لإعادة البناء فقط. الفرق بين الدولة الحديثة والدولة الهشّة هو الفرق بين التخطيط والمؤقت، بين المشروع والرغبة، بين القانون والارتجال. سوريا بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، ومؤسسات قوية، وليست بحاجة إلى خطابات كبرى، بل إلى سياسات صبورة وطويلة النفس. التجربة لا تُقاس بالشهور، بل بالعقود.

بعد عامين سيبدو المشهد أوضح؛ إما أن تكون سوريا قد وضعت قدمها الأولى على طريق الدولة المدنية الحديثة، أو تكون قد دخلت نفق إعادة إنتاج أزماتها بملامح جديدة. وفي الحالتين، سيكون هذا العام التأسيسي قد كتب الفصل الأهم في مستقبل البلاد. هذه ليست معركة أشخاص، بل معركة نموذج؛ نموذج الدولة التي تحمي مواطنيها لا التي تعيد تدوير الخوف.

آخر الكلام: ينبغي الالتفات إلى القوة الناعمة السورية وأهميتها في بناء الدولة الحديثة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد