: آخر تحديث

يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ!

3
2
2

بَيْتُ القَصِيدِ الّذِي نَكْتُبُ عَنْهُ اليَوْمَ، هُوَ بَيْتُ شِعْرٍ فِيهِ عَاطِفَةٌ جَيَّاشَةٌ، وَمَشَاعِرُ رَقِيقَةٌ فَيَّاضَةٌ، وَإحْسَاسٌ شَفِيفٌ ظَرِيفٌ، إِذَا أُخِذَ البَيْتُ بِذَاتِهِ وَحِيداً، وبِنَفسِهِ مُنفَرِداً .

وهُوَ مِنْ شِعْرِ شَاعِرِ الدُّنيَا، أَبِي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّيِّ، تَقَبَّلَهُ اللهُ بِوَاسِعِ رَحْمَتِهِ، إِذْ يَقُوْلُ:

يَا مَنْ يَعِـزُّ عَلَينَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ

وِجْدَانُنَا كُلَّ شَيءٍ بَعْدَكُم عَدَمُ

وَأَوْرَدَ ابْنُ سِنَانَ الخَفَاجِي (ت466هـ)، فِي «سِرُّ الفَصَاحَة»، بَيْتُ المُتَنَبّي، أوَّلُ ثَلَاثَةِ أبْيَاتٍ، ضِمْنَ أمْثِلَةِ وُرُودِ القَوَافِي مُتَمَكِّنَة فِي الأَشْعَارِ المُخْتَارَة.

وَفِي «مُحَاضَرَاتُ الأُدَبَاء»، قَالَ الرَّاغِبُ الأَصْفَهَانِي (ت502هـ):

«ويُستَعذَبُ قولُ المتنبيّ، حَتَّى مَا مِنْ أديبٍ إِلَّا وَهوَ يَروِيهِ وَلَا مُغَنٍّ إِلَّا وَهوَ يُغَنِّيهِ:

يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَينَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ

وِجْدَانُنَا كُلَّ شَيءٍ بَعْدَكُم عَدَمُ».

وَاسْتشْهَدَ بِهَذَا البَيْتِ، ابْنُ أبِي الإِصْبِعِ العَدَوَانِي (ت654هـ)، فِي كِتَابِه: «تَحْرِيرُ التَّحْبِيرِ فِي صِنَاعَة الشِّعْرِ وَالنَّثْر»)، عِنْدَمَا بَوَّبَ بَابَ «ائْتِلَافُ القَافِيَةِ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَائِرُ البَيْت»، فَقَالَ:

«التَّمْكِينُ؛ هو أنَّ يُمَهِدَ الناظمُ لقافيةِ بيتِهِ، تَمهِيداً تَأتِي القَافِيةُ بهِ مُتَمَكِّنَةً فِي مَكَانِهَا، مُستقِرَّة فِي قَرَارِهَا، مُطمَئِنَّة فِي مَوْضِعِهَا، غَيرَ نَافِرَةٍ وَلَا قَلِقَة، مُتَعَلِّقًا مَعنَاهَا بِمَعْنَى البَيْتِ كُلِّهِ تَعَلُّقاً تَاماً، بِحيثُ لَوْ طُرِحَتْ منَ البَيْتِ، اختَلَّ مَعنَاهُ، واضطَرَبَ مَفهُومُهُ، وَلَا يكونُ تَمكنها بحيثُ يقدمُ لفظها بعينِه في أوَّلِ صَدْرِ البَيتِ، أو معنًى يدلُّ عليهَا في أوَّلِ الصَّدرِ، أو فِي أثنَاءِ الصَّدرِ، وَلَا أن يُفيدَ معنًى زَائدًا بعدَ تَمامِ مَعْنَى البَيْتِ، فَإنَّ الأَوَّل يُسَمَّى تَصْدِيراً، وَالثَّانِي تَوشِيحاً، وَالثَّالِثَ إِيغَالًا، وَلَا يُقَالُ لِشَيءٍ منْ ذلكَ تَمكِينٌ أَلبَتَّة».

وَفِي «خِزَانَةُ الأَدَبْ وَغَايَةُ الأربْ»، قَالَ ابنُ حجةَ الحَمَويّ (ت837هـ):

«وَالّذِي عَقَدَ البَدِيعِيُّونَ عَلَيهِ الخَنَاصِرَ فِي هَذَا البَابِ، قَوْلُ أَبِي الطَّيّبِ:

يَا مَنْ يَعِـزُّ عَلَينَا أَنْ نُفَارِقَهُمْ

وِجْـدَانُنَا كُلَّ شَيءٍ بَعْـدَكُم عَـدَمُ»

يَعِزُّ علينَا أنْ نفارِقَهُمْ: يَصعُبُ عَلينَا فِرَاقُهُمْ فهوَ شَدِيدٌ مُؤْلِمٌ لنَا.

وِجْدَانُنُا كُلَّ شَيءٍ بَعدَكُم عَدَمُ: كلُّ مَا نجدُ بعدَ تَرْكِكُمْ، مَهْمَا كَانَ كَبيراً وَعَظيماً، هَوَ بِفراقِكُمْ عَدَمٌ، لَا قِيمَةَ لَهُ، ولا أَثَرَ، وَلَا مَعنَى.

وَفِي البَيْتِ يُخاطِبُ الشَّاعِرُ أُنَاساً، يَبدُو مِنْ مَعَانِي بَيْتِهِ، أَنَّهُ كَانَ بَينَهُمْ، يَقْضِي مَعَهُمُ الأَوقَاتَ، مُستَمتِعاً بِرُفقَتِهِم، مُستَأنِساً بِخُلَّتِهِم، مَسرُورًا بِمُلَازَمَتِهِم.

وَيَشرحُ بِوُضُوحٍ أَلَمَ الفِرَاق، بِأكثرَ مِنْ مَعْنَى، مِنْهَا تَحَوُّلُ الأشْيَاءِ بعدَ مُفَارقَتِهمْ إلَى لَا شَيء، بِانْعِدَامِ قِيمَتِهَا.

وَهَذَا المَعْنَى الجَلِيلُ الّذِي أَكَّدَهُ المُتَنّبّي فِي بيتِهِ، يَتَّفِقُ غَالِبُ النَّاسِ عَليهِ، فَقِيَمُ الأشْيَاءِ يَرْفَعُهَا حُضُورُ القَيِّم بينَنَا، وَغِيَابُهُ يُفقِدُهَا قِيمتَهَا.

وَكَذلكَ الأَمَاكِنُ، إِذْ تَزدَانُ المُدُنُ بِصُحْبَةِ الخِلَّانِ، وتُصبِحُ عَينَ غُربَةٍ بدونِ مَنْ حوَّلَ وُجُودُهُمْ المُدُنَ وَطَنًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد