فيصل الشامسي
يشهد القرن الحادي والعشرون تحولات عميقة أعادت رسم طبيعة التهديدات الأمنية والفكرية والسياسية التي تواجه الدول، خصوصاً في العالم العربي الذي عانى طويلاً من ويلات التنظيمات الأيديولوجية المتطرفة ذات الامتدادات العابرة للحدود، وفي مقدمة هذه التنظيمات يأتي تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي، الذي مثل عبر عقود بنية أيديولوجية مغلقة ذات مشروع عابر للحدود يناقض منطق الدولة الوطنية الحديثة.
ومع تراكم الخبرات والتجارب في المنطقة والعالم، أصبح من الضروري تحليل مستقبل هذا التنظيم الإرهابي وغيره من التيارات المتطرفة، واستشراف سبل المواجهة الشاملة التي تضمن استعادة هيمنة الدولة الوطنية وترسيخ سيادتها.
لقد أثبتت الوقائع أن الإخوان، رغم محاولاتهم المتكررة الظهور في ثوب حركة إصلاحية، حيث يفضحهم ويظهر عوارهم مشروعهم الأيديولوجي الذي لا يتوافق مع نموذج الدولة الوطنية الحديثة، فالبنية التنظيمية الهرمية المغلقة، والولاء للتنظيم العالمي، والعمل داخل المجتمعات عبر هياكل سرية، كل ذلك يشير إلى مشروع أيديولوجي لا يعترف بحدود الدولة الوطنية ولا بسيادتها. وبمرور الوقت، اتضح أن التنظيم لا يسعى إلا للسيطرة على السلطة في مختلف الدول المتوغل فيها، بل إلى تمكين اتباعه وإقصاء غيرهم، حتى لو أدى ذلك إلى إضعاف الدولة والمؤسسات الوطنية أو تفكيكها.
ترافق هذا مع صعود عالمي في فهم مخاطر التنظيمات ذات الهوية العابر للحدود، سواء كانت دينية أو عقائدية أو شبكات ضغط دولية، وقد أدركت الدول أن مثل هذه الحركات، مهما بدت معتدلة ظاهرياً، تمتلك القدرة على زعزعة الاستقرار عبر صناعة الانقسام الداخلي، وتغذية خطاب التشكيك في الدولة الوطنية ومؤسساتها، وإعادة توجيه ولاءات الأفراد نحو هياكل خارجية وتنظيمات عابرة للحدود الوطنية، ومن هنا، أصبح التعامل مع الإخوان والتيارات المتطرفة ليس خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة أمنية وفكرية للحفاظ على استقرار المجتمعات.
إن التحدي الأكبر الذي تطرحه هذه التنظيمات يتمثل في البعد العابر للحدود؛ فهي لا تنطلق من رؤية وطنية، بل من مشروع أيديولوجي متطرف يسعى لإعادة تشكيل الدولة والمجتمع وفق مفاهيم تتجاوز السيادة الوطنية، وهذا ما يجعلها مناقضة تماماً لمفهوم الدولة الوطنية الذي يقوم على الانتماء والولاء للوطن وقيادته، فعندما يصبح الولاء للتنظيم أولى من الولاء للدولة، يتحول الفرد إلى أداة ضمن مشروع أيديولوجي خارجي، وتصبح الدولة ساحة تنافس بين قوى تنظيمية لا تعترف بالسيادة الوطنية، بل تسعى إلى تحقيق مصالحها الإرهابية فحسب.
إن استعادة هيمنة الدولة الوطنية في هذا السياق تتطلب فهماً دقيقاً لآليات عمل تلك التنظيمات، وعلى رأسها قدرة الإخوان على اختراق المجتمع عبر شبكات متداخلة من المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والإعلامية والفكرية، وقد أثبتت التجربة أن المواجهة الأمنية وحدها غير كافية، وأن النجاح الحقيقي يكمن في تفكيك البنى الفكرية والتنظيمية التي تمنح هذه التيارات المتطرفة القدرة على إعادة إنتاج نفسها تحت مسميات مختلفة.
وفي إطار هذه المواجهة، يبرز مفهوم «الحسم الاستراتيجي» كضرورة لا يمكن تأجيلها، فالدول التي تبنت سياسات رمادية أو مترددة في التعامل مع التنظيمات المتطرفة دفعت ثمناً باهظاً على مستوى الأمن الداخلي، وعلى مستوى تماسك الهوية الوطنية، وفي المقابل، فإن الدول التي اعتمدت مقاربة شاملة، قانونية، فكرية، ومؤسساتية، نجحت في تجفيف منابع التطرف وإضعاف شبكات التأثير الخارجية.
ولا بد في هذا السياق من التأكيد على أن ترسيخ الدولة الوطنية ليس مجرد إجراء سياسي، بل مشروع حضاري يقوم على تعزيز قيم المواطنة والانتماء، وبناء مؤسسات قوية قادرة على إدارة الموارد وتحقيق التنمية، وتوفير فضاء وطني مضاد للاختراق، ومجتمع يضمن المشاركة المسؤولة ويمنع استغلال الدين أو الهوية لأهداف تنظيمية، فالدولة القوية هي القادرة وحدها على منع تسلل التنظيمات الأيديولوجية إلى داخل المجتمع، وهي القادرة على حماية الوعي العام من خطاب التضليل الذي تتبناه تلك التيارات.
كما أن تعزيز الهوية والثقافة الوطنية، وتحديث منظومات التعليم، وتمكين الوعي الوطني، تمثل أدوات جوهرية في هذه المواجهة، فالتيارات المتطرفة تزدهر في بيئات الضعف والانقسام، وتفقد قوتها حين يستعيد المجتمع ثقته في دولته ومؤسساته، ومن هنا، فإن بناء مشروع وطني جامع يعد أحد أهم خطوط الدفاع ضد التنظيمات العابرة للحدود.
ويظهر بوضوح أن مستقبل الإخوان والتيارات الأيديولوجية المتطرفة يتراجع كلما تقدمت الدول نحو بناء مؤسسات أكثر صلابة، ومجتمعات أكثر وعياً، واستراتيجيات أكثر شمولاً في حماية الأمن الفكري والسياسي، والاجتماعي، فالقرن الحادي والعشرون هو قرن الدولة الوطنية، لا التنظيمات العقائدية المتطرفة، وقرن السيادة الوطنية لا الولاءات المتعددة، وقرن الاستقرار لا مشاريع التفكيك الأيديولوجي.
إن استعادة هيمنة الدولة الوطنية ليست خياراً، بل ضرورة لحماية مستقبل الأوطان وصون الهوية وحفظ الاستقرار، وفي هذه المعركة الحاسمة، يصبح الوعي الوطني والقدرة المؤسسية والوضوح الاستراتيجي هي الأسلحة التي تصنع المستقبل وتحسم المعركة ضد التيارات المتطرفة.

